السوشيال ميديا وفُقدان المِصداقيَّة
على مدى السنوات الأخيرة تمددت سطوة العالم الافتراضي – لا سيما في عالمنا العربي- بصورةٍ تداخلت تداخُلاً خطِرًا مع تفاصيل العالم الواقعي، فصار هُناكَ من يعيشون بأجسادهم على الأرض بينما تُحلق عقولهم وقلوبهم بكل أفكارهم ومشاعرهم في ذاك الفضاء الذي يهربون إليه من قيود واقعهم غير المُريح، وبينما كان الفرار من الواقع المفروض على الإنسان يتطلب وقتًا ومجهودًا جادًا وقدرًا كافيًا من الذكاء والتخطيط للارتقاء نحو ظروفٍ أفضل؛ صار باستطاعة أي كائنٍ بشري يملك هاتفًا مُتصلاً بالشبكة العنكبوتية الإلكترونية اليوم الانتقال من حالٍ إلى حال دون ضوابط وبذكاء أقل من المتوسط، بل ربما يحصد شخصًا تم تشخيصه طبيًا باعتباره حالة من حالات التأخر العقلي الشديد بما ينشره من مقاطع مُصوَّرة نجاحًا ساحقًا وشُهرة واسعة لا يحصدها "آينشتاين" أو "دافنشي" لو عادا إلى الحياة في عصرنا! وهذا ليسَ بعجيب؛ فعِلم نفس الجماهير يؤكد أن الأغلبيَّة تتعاطف مع الأقرب إلى مستواها العقلي وليسَ الأعلى الذي يُضطرها لإجهاد خلايا دماغها بالتفكير، لذا يستمتع البُلهاء بمُتابعة كل ما يتوافق مع مستوى عقولهم ويرون فيه شهيًا لذيذًا مُحرضًا على المُتابعة والتهليل والتصفيق.
الأكثر إزعاجًا في ظاهرة تمدد الأذرُع الأفعوانيَّة لوسائط التواصُل المدعوَّة بـ "السوشيال ميديا" مثل التكرار وانعدام المِصداقيَّة، فبعد أن صار كُل من هب ودب يُدعى "صانع مُحتوى" دون ضوابط أو قوانين، وكل من هب ودب يتلقى هذا المحتوى دون غربلة، وجدنا أنفُسنا أمام فئة من المُصابين بـ "إسهال تقديم المحتوى" المُقلَّد دون وجود مضمون حقيقي! وفوق هذا يتعرَّض المُتلقي لأكاذيب مُتعمدة بهدف ما يُسمى "زيادة المُتابعة"! لا مصداقيَّة في إعلاناتهم أو أخبارهم أو ما يسردونه من حكايات، إلى درجة صارت فيها شريحة واسعة مما يمكننا أن نُطلق عليهم "الجماهير الجديدة" التي لم تكُن لها علاقة سابقة بوسائل الاتصال الجماهيري الأخرى كالتلفاز والإذاعة والصحافة تتوهم أن كل كلمة تُقال عبر مِنصات "السوشيال" لا هدف لها إلا زيادة المُتابعة لجمع أكبر قدرٍ من الأرباح! غير قادرين على استيعاب حقيقة أن هناك من يُحاولون الاستفادة من تلك المنصات بالتعبير عن آراء حقيقية، أو الفضفضة، أو حتى التسلية البريئة من الأهداف الخفيَّة!
يبدو أننا في عالمٍ بدأ يغرق بسبب انفصاله عن الواقع، ومخاطر هذا الانفصال بدأت تؤثر بوضوح على قيَم المُجتمعات والأُسَر وصولاً إلى التأثير السَّلبي على العافية النفسية والصحة العقلية لبعض الأفراد غير المُتزنين، عدا عن استغلال هذا العالم الوهمي في ارتكاب جرائم أخلاقيَّة بحق أبرياء سواء كانوا مشهورين أو مغمورين بهدف تدمير حياتهم دمارًا يستحيل ترميمه، ما يدق ناقوس الخطر أمام انتباه العُقلاء ويُذكرهم بأن ليس كل ما يبدو أمام الشاشة قد يُعلن عن الحقيقة التي وراء الكواليس، وأن التسلُّح بالحذر تجاه كل من لا نعرفه معرفة شخصيَّة واجب ضروري لحماية أنفسنا وسُمعتنا.