غُـــربـــــة
الغربة هو مصطلح نستعمله بكثرة عند الحديث عن منطقة جغرافية جديدة انتقلنا إليها بعد أن غادرنا الوطن! وطبعاً كان الأجدر أن أتحدث إليكم اليوم عن الوطن والانتماء حتى نستطيع أن نعرّف الغربة، لكن دعونا نبقى في الغربة اليوم!
عند الخوض في أصل هذا مصطلح الغربة، يمكن للمرء أن يتعرف على أصله في مفهوم "الغريب"، الذي يشير إلى الكيان الغريب البعيد عن المألوف. وهذا يذكّرنا بالمسرحية المثيرة للفنان دريد لحام والتي تحمل هذا العنوان: "غربة!" تكشف المسرحية ملحمة قرية منسية، واقعة في شُرك حاكم مستبد، المختار أو العمدة. يجبر طغيان عمدة القرية رجالها على البحث عن لقمة عيشهم في مكان آخر، تاركين وراءهم أرضًا مقفرة يسكنها النساء والأطفال فقط، وعلى غرار سيناريو زمن الحرب في أمريكا عندما غادر الرجال للقتال وتولت النساء عباءة المعيلين. في خضم منفاهم، يتحمل الرجال العار والإهانة لكسب لقمة العيش، فقط ليتوقوا إلى العودة إلى الوطن، حيث استُقبلوا استقبال الفاتحين.
والسؤال هنا: ما الذي يشكل الاغتراب الحقيقي؟ هل هي التضاريس غير المألوفة أو المنطقة الجغرافية؟ هل الاغتراب شبح خارجي مرتبط بالبيئة المحيطة أم تنافر داخلي؟ ألا نشعر بالغربة حتى وسط المناظر الطبيعية المألوفة أو في أحضان الوطن؟
من المحتمل أن مصطلح "الغربة" نشأ في العصور القديمة، عندما ربطنا أنفسنا بنفس المسكن، نفس الحي، على أرض ثابتة منذ الولادة وحتى النهاية. وبعد مغادرة القرية إلى المدينة، وجدنا أنفسنا منجرفين وسط وجوه غير مألوفة، ونسكن في بيئة تختلف بشكل صارخ عن بساطة حياتنا الريفية. لقد كانت القرية ملاذنا، معقلنا، والمدينة - ملاذنا الحضري- جعلتنا غرباء! لأننا ندوس على أرض ثابتة ليست موطنًا لنا، ونسكن داخل صروح مجردة من الملجأ... على الرغم من أنها تتكشف داخل الحدود الجغرافية المألوفة. وهنا يكمن جوهر الغربة – اغترابنا عن المناطق التي كنا نسميها ذات يوم وطناً. ومن ثم، فقد استولت الأجيال المتعاقبة على هذا المصطلح دون تمييز، على الرغم من أنه قليل ما يمكثون في نفس المكان طوال حياتهم حيث أصبحت الحركة والهجرة أمرًا ضروريًا.
أنا لم أكن ممن عاشوا في ذات المكان طوال حياتهم، بل من فئة الرحالة حيث قطار حياتي أخذني معه من محطة إلى أخرى وكنت أحاول دائماً العودة إلى المحطة الرئيسية، المحطة التي انطلقت منها رحلتي الأولى، أعود لها بين الحين والآخر فقط كي أحافظ على المرساة التي تمسك قاربي بالأرض، كنت كقبطان السفينة المغامر الذي يبحر حول العالم، ولكنه يعود من حين لآخر للمرفأ الأصلي حيث المرساة هناك كخيوط تربطه بالحياة. لم أكن أرغب بقص تلك الخيوط حيث إنها تمنحني الشعور بالأمان فإن قطعتها قد أكون كاليتيم أو كريشة تطير في الهواء أو ربما كبالون الأطفال المربوط بشريط ملون، ما إن قطعت الشريط طار البالون في السماء. لذلك كنتُ أتوق للعودة للمحطة الأولى حيث أعود لأرض ألفتها يوماً، ووجوه عرفتها يوماً، ومنزل ولدتُ وعشتُ طفولتي به يوماً. ولكن رغم كل ذلك كانت فترة البقاء مؤقتة دائماً فقطار حياتي كان ينتظرني في تاريخٍ محدد وساعة محددة للعودة بي لمكان أصبح أكثر ألفةً.
وفي إحدى محطات حياتي، صادفتُ سيدة بولندية اسمها إيفا، حكت لي قصة حياتها باختصار شديد وبكثير من التشويق والشغف.
روت لي كيف، في خضم الاضطرابات السياسية التي مزقت بولندا خلال الحرب العالمية، قرر والدها في إحدى الليالي المصيرية أن يهرب مع العائلة إلى مناخات أكثر أمانًا. وإخلاصًا لتصميمه، وتحت جنح الليل، هربت العائلة سرًا من بولندا إلى ملاذ بعيد، وبلغت ذروتها بزواجها من سليل شاب وهجرة لا رجعة فيها إلى كندا. وظلت خلال سنوات تعيش الغربة والألم والحنين يتملك قلبها الشاب للعودة إلى الوطن الأم بولندا. إلى أن قررت أن تعود لتزور وطن الطفولة، وهناك حدث أمر عجيب! إذ أحست بالغربة على أرض كانت يوماً وطناً وملجأً.
في أحضان وطنها، وجدت إيفا نفسها تتصارع مع شعور عميق بالتفكك، يشبه المتجول الضائع في متاهة الذاكرة. لقد بدا المشهد الطبيعي، الذي كان مألوفًا في السابق، محاطًا بهالة من الغرابة، كما لو أن الزمن نفسه قد أحدث تحولًا في ملامح ذكرياتها العزيزة. وبينما كانت تتجول في الشوارع المألوفة في طفولتها، وجدت إيفا نفسها محاطة بمجموعة متنوعة من العواطف - حنين ممزوج بشوق مؤثر إلى عصر مضى، يخففه الإدراك الصارخ أن مرور الوقت قد غير نسيج حياتها بشكل لا رجعة فيه. - محيط مألوف، ولكن الوجوه غريبة!
ولذلك فإن الغربة قد تتعدى حدود الوطن أو الجغرافيا المحددة فرغم أننا قد نربط الغربة بالانتقال الجسدي أو الشوق لوطن بعيد، فإن جوهرها يتمثل في العلاقة التي نحن فيها مع محيطنا، لا في المسافة البعيدة عن موطننا الأصلي. فقد نجد أنفسنا نشعر بالغربة حتى وسط المشاهد الطبيعية المألوفة في بلادنا، بينما يمكننا بناء روابط عميقة وتجربة الانتماء في أراضٍ غريبة أو غير مألوفة بالنسبة للبعض. الغربة هي حالة داخلية قد نعيشها في أي مكان وزمان!