من سيدة القطار إلى بائع البرتقال.. يا قلبي احزن!!
في إحدى شوارع الجيزة، تمر الشاحنات واحدة تلو الأخرى في بداية انطلاقها نحو رفح.. كان الطريق مزدحم بعض الشيء، مما أجبر السائقين على المرور بسرعة منخفضة.. هناك كان عم ربيع بائع الفاكهة الذي تفترش بضاعته أحد الأرصفة، وقد أتاح له المرور البطيء أن يرى الشاحنات ويميز وجهتها.. هي ذاهبة للمعبر حيث الغوالي من أهلنا في غزة.
لم يفكر الصعيدي البسيط مثلما يفكر الكثيرين في جدوى تلك الشاحنات، وهل هي كافية أم لا، وهل سيُكتب لها النجاح في العبور أصلا، أم سيستوقفها أو يعطلها أو يهدد بقصفها الوحوش الآدمية الرابضة هناك، والجاثمة على صدور الجوعى والمشردين، تمارس كل صنوف الإبادة الجماعية والتطهير العرقي أمام أعين العالم الأخرس الأعمى الأصم.. كل هذا لم يشغل عم ربيع الذي انطلق مسرعا بخفة الفراشة نحو بضاعته.. أكل عيشه ومصدر رزقه الوحيد، وقد ساقه قلبه وأخبرته نيته الطيبة، أن طفلا أو أباً أو أماً من غزة، محرومون منذ شهور من تذوق طعم الفاكهة.
فجعل يقذف السيارات بحبات البرتقال ولسان حاله يقول: ليست خسارة في أهل غزة أن يذهب إيراد اليوم كله كرامة لهم، مزينا برسالة حب ومودة وصلت صداها وعفويتها ورمزيتها البسيطة للقلوب، بعد أن رصدت إحدى كاميرات الهاتف المحمول كل ذلك، وانتشر المقطع انتشارا واسعا.. حتى تلك اللحظة، أو بعدها بيوم أو يومين، كان الأمر رائعاً، وكان المشهد جميلا حتى وإن صاحبته غصة في القلب، وشيء من مرارة قلة الحيلة والعجز التي أوصلتنا للاحتفاء الشديد بمشهد مثل هذا.. أنا شخصيا كنت أحد المتفاعلين مع الموقف ، وكتبت على مواقع التواصل تأملاتي عن هذا المشهد العفوي البسيط.
وقد ذكرتني الواقعة بالإنجيل حيث المرأة ذات الفلسين، التي كرمها السيد المسيح، بوصفها وقد أعطت أكثر من كل الأغنياء داخل الهيكل وهم يتفاخرون بكثرة عطاياهم، وقال إنها الأكرم والأكثر سخاء، لأنها تبرعت من إعوازها وأعطت كل مالها لفقراء مثلها.. حينها شاركني بعض من إخوتي المسلمين، وقد أبرزوا حضور نفس الرمزية في الإسلام في حديث شريف: (سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ: رجلٌ لهُ دِرْهَمانِ فأخذَ أحدَهُما فَتَصَدَّقَ بهِ، ورجلٌ لهُ مالٌ كَثِيرٌ فأخذَ من عُرْضِهِ مِائةَ أَلْفٍ فَتَصَدَّقَ بِها).
إلى هنا وقد كنت أعتقد أن الموضوع انتهى.. ولكن.. وآه من كلمة لكن في بلادي.. كل شيء كان جميلاً دافئاً ودوداً سيأخذ وقته وتؤخذ منه العبرة والقيمة الإنسانية ومعاني التآخي والدعم والمناصرة.. ثم نقطة ومن أول السطر تُكتب بالخط العريض "فلسطين" .. هكذا ظننت!!
حتى جاء الإعلام واقتحم المشهد، باعلامييه الكبار، بطوفان مراسليه وأسطول مواقعه الصحفية، بوعود الحج والمتجر الجديد، بلقاء تلو لقاء مع الرجل.. فجأة أصبح الحدث عم ربيع.. البطل عم ربيع.. التاجر تحول لبضاعة انفرادات ونسبة متابعات، ووسيلة لتنشيط "الريتش" وعداد المشاهدات، حتى وصل الأمر إلى أنه اشتكى أن الوعود لم تتحقق.. تذكرت فورا واقعة سيدة القطار، التي ساقها القدر لترى المحصل وهو يصر على إنزال عسكري من القطار بسبب عدم امتلاكه لثمن التذكرة، فقامت لتفعل ما يفعله الملايين من بسطاء شعبنا من خلف الكاميرات، وأصرت على دفع ثمن التذكرة للمجند.. تفاعل معها الملايين وقتها، وأحبوها وأثنوا عليها.. ولكنها أيضاً وقعت ضحية للريتش واللايك والشير، فاستجابت للأضواء المؤقتة الخادعة، الكفيلة بالإفساد المتعمد لكل شيء جميل وفطري وتلقائي، ومع فرضها على الناس في شتى المناسبات، ضاق الناس بها ذرعاً، وأصابهم الملل من أخبارها وتحركاتها التي لا تهم أحدا، ثم تحولت إلى مادة للسخرية والكوميكس، برغم أن ما فعلته كان أمر جيد.
وهكذا عم ربيع الفكهاني رجل عظيم.. لكن للأسف هذا هو حال الإعلام.. تخصص في تشويه أي قيمة جميلة.. ومن يقع تحت يديه ترند لا يتوقف عن حلبه لآخر قطرة.. ويجعلوه مادة مضمونة لبعض الوقت، لاستغلاله واستنطاقه بكلام نعلمه جيدا، للتلميع والدعاية وزيادة نسبة المشاهدات للحد الذي يصل بنا للملل منه..
إن قضيتنا الأساسية يا سادة فلسطين... فلسطين وغزة ومعاناتها ومآسيها.. وهذا الفخ نقع فيه كثيرا دون أن ندري وعلى كل المستويات..
نقاطع منتجات لأجل فلسطين، فتتحول المقاطعة والبدائل في حد ذاتها هي الموضوع لدرجة وصلت للكوميكس والمزاح.. هل يعقل هذا!! موضوع أساسه الدم والانتهاكات والضحايا يتحول لمادة للفكاهة!! وتاهت القضية الأساسية.
محمد سلام رفض الذهاب لموسم الرياض.. عظيم.. ولكن تحول الكلام عن سبب رفضه لمعركة بين وطنيته وأخلاقه ضد نطاعة ورخص زميل آخر!! وتاهت القضية الأساسية
وهكذا محمد صلاح وباسم يوسف وويجز والقائمة تطول...
نحن لسنا أبطال يا سادة.. لا يوجد بيننا بطلا.. مهما فعلنا أو تحدثنا أو صرخنا.. فهو واجب وحق علينا تجاه هؤلاء البشر ولو بأضعف الإيمان " الكلمة" .. فلتكن غزة هي الأساس، والباقي تفاصيل جانبية..
تحية لعم ربيع ولكل من على شاكلته من بسطاء شعبنا الجميل .. ولكن .. لنرحمه ونرحم غيره، ممن يدمروا الفطرة الطيبة للبشر، ويشوهون التصرفات الإنسانية التلقائية التي يفعلها أصحابها دون انتظار مقابل أو حتى مدح أو ثناء، فوقعوا فريسة لتجار اللقطة والشو الإعلامي.