رِفقًا بأهل المُتوفّين..
الموت من السُّنن الكونيَّة المكتوبة على البشريَّة، بابٌ لابد وأن يجتازه الكائن الحي إلى حياةٍ أُخرى مجهولة، لكن هذا الموت - كما وصفه الشاعر محمود درويش– لا يوجِع الموتى بل يوجع الأحياء، فأهل الميّت ومُحبّيه والمُقرَّبين منه هم الذينَ يتجرعون مرارة الألم ويغرقون في عُمق الآثار الجانبيَّة لتلك الفاجِعة، وموت المُقرَّبين دائمًا مُفجِع مهما كان متوقعًا، إذ تكون مشاعر "الإنكار" هي سيدة الموقف عند تلقي خبر الوفاة وتستمر زمنًا قبل استيعاب الحدَث ثم الانهيار.
وخلال المراحل الأولى من فاجعة الموت يمر أهل الميت بحالة استثنائيَّة غير طبيعيَّة تجعلهم بأمس الحاجة للاهتمام والرعاية ومُداراة مشاعرهم المُستنزَفة إلى أقصى الحدود، إذ يبدو لمن يراهم ظاهريًا أنهم أحياء، لكن ضعفهم وهشاشة مشاعرهم وقِلَّة حيلتهم وتبدُد قدرتهم على التركيز تجعل منهم بمثابة موتى تتحرك أجسادهم بصعوبة لمُحاولة التعامل مع الحد الأدنى من احتياجات البقاء على قيد الحياة، وقد يصل الأمر ببعض المُقربين من الميت بالتدحرج في هاوية الاكتئاب وعدم التعافي إلى الأبد ما لم يتم احتواؤهم بطريقة مُناسبة.
خلال تلك المرحلة يحتاج أهل المتوفى كلمة طيبةً دافئة تُطيب خواطرهم وتبعث في نفوسهم شيئًا من الأمل والسَّلوان، لا كلامًا جامدًا مُكررًا وكأنه يسخر من عُمق أحزانهم، ولا كلامًا جارحًا يُسيء للميت أو يلومه ويلوم أهله على طريقة موته أو الطريقة التي قضى بها أعوام حياته، فهؤلاء الناس يواجهونَ ألمًا أكبر من قُدرة بعض أفرادهم على التحمُّل، كلمةٌ غير محسوبة قد تفتك بهم وتُرسلهم إلى الدار الآخِرة.
لا يُدرك تلك المشاعر إلا من اضطُر لاجتيازها، في تلك الأوقات تتجلَّى قيمة العائلة المُترابطة مُقارنة بالوِحدة أو الأسرة المُفككة التي لا يُطيق أفرادها بعضهم بعضًا ولا يكترثون ببعض، وقيمة الأصدقاء الصدوقين الحنونين المُخلِصين مُقارنة بالأرقام التي تُطلق على نفسها مُسمى أصدقاء، تعرف من يُعزيكَ بصدق لأنهُ مهتم بشأنك حقًا ومن يقول كلمتين باردتين من باب "تأدية الواجب" لئلا "يتكلم عليه الناس"، بل ويرتفع مستوى وعيك لتكتشف أولئكَ الناضجين الذين يعرفون معنى هذا الحدَث الجَلل في حياة أي إنسان ومن لا تؤهلهم مشاعرهم لهذا المستوى من الوعي.
فترة تقديم واجب العزاء المُتعارف عليها في مُجتمعاتنا العربيَّة هي ثلاثة أيَّام، لكن في بعض البيئات المُجتمعيَّة الأقل وعيًا يستمر بعض المُعزين بالتدفق على منزل أهل المتوفى حتى بعد رفع مراسِم العزاء، ما يحرمهم فُرصة الراحة والاستقرار والعودة التدريجية لحياتهم الطبيعية! لا سيما وأن استمرارية استقبال المُعزين تتطلب القيام ببعض المهام المُرهقة التي منها خدمتهم والاهتمام بشؤونهم في فترة يكون فيها أهل المتوفى بأمس الحاجة لمن يرعاهم ويخدمهم ويهتم بهم، لذا ليسَن من الذوق أو الإنسانيَّة أن تُكبد الناس هذا العناء ما لم تكُن واعيًا بضرورة مد يد المُساعدة بمختلف أشكالها لهم.