دردشة…بالعربي الفصيح:
تأثير الأقليات على كندا!
هاجرت إلى كندا في عام ١٩٩٤ وكنت ابلغ من العمر وقتها ١٨ سنة؛ استقريت في مدينة هاليفاكس عاصمة مقاطعة نوفا سكوشا؛ وهي مقاطعة ساحلية صغيرة في شرق كندا تتميز بالهدوء وبشعبها الودود المهذب! لم تبلغ الهجرة ذروتها في عام ١٩٩٤، ومعظم المهاجرين آنذاك كانوا يتجهون إلى المدن الكبيرة حيث فرص العمل الأكبر والسكن الأوفر! ولذلك، لم تقتظ المقاطعات الصغيرة كنوفا سكوشا بالمهاجرين والأقليات بشكل عام، لدرجة إننا كنا نتعجب ونشعر بسعادة غامرة عندما كنا نرى بالصدفة عرباً أو مصريين في الشوارع، حيث لم يكن هذا شائعاً!
ولذلك، من السهل جداً أن تلاحظ تأثير الهجرة على سلوكيات الكنديين في تلك المقاطعات البسيطة عبر السنين! وإليكم، أعزائي، ملاحظاتي على مدار الثلاثين عام الماضية! وانا لن أتكلم عن كيف غيرت كندا قوانينها الاجتماعية لاحتواء كل الأقليات المرئية والمضطهدة، لأننا كلنا نعلم هذا! لكن سأتكلم عن تأثير الهجرة على أخلاقيات الشعب الكندي بشكل عام، وبالتالي سلوكهم!
من القوانين الفريدة الخاصة بـ نوفا سكوشا هي أن أولوية المرور للمشاة، وكنت أذهل عندما أرى السيارات تبطئ سرعتها وتتوقف على الفور سرعان ما يهم أحد المشاة بعبور الطريق، حتى وإن كان المكان غير مخصص للعبور! وكانت المركبات تتوقف عن بعد ملحوظ في قمة الالتزام! لكن مع ازدياد الهجرة واختلاف سلوكيات القيادة باختلاف خلفيات المهاجرين، قد تشوه تدريجياً التقيد بهذا القانون، رغم انه لايزال ساريا رسمياً! وبعد ثلاثين سنة، قد ظهر جيل ثاني تربى على السلوكيات المرورية المختلطة، فبدأنا نرى المركبات لا تأبه للمارة في بعض الأحيان كما كانت في الماضي!
كما أن بعض قوانين القيادة الخاصة بكندا لم تعد تتبع كما ينبغي مؤخراً، بسبب غرابتها لدى الأقليات، مما أدى إلى تعطل المرور في بعض المواقف؛ وهكذا انعكست خلفيات المهاجرين على بعض سلوكيات المرور!
وكما تغيرت سلوكيات المرور تغيرت أيضاً سلوكيات وجودة خدمة العملاء، ليس فقط على مستوى مراكز الاتصالات الهاتفية، بل أيضا في المعاملات التجارية اليومية، من الشاب العامل بماكدونالدز إلى فريق خدمة عملاء متاجر البيع الكبيرة! في الماضي كان "الزبون دوماً على حق"، حتى وإن لم يكن على حق! بل وكانت الزبائن في الماضي تشتكي بأمانة وليس استغلالاً للموقف! لكن مع كثرة الأقليات، انتشرت الفهلوة وزاد الكذب وارتفعت أيضا نسبة عمل الأقليات نفسها في تلك الوظائف، فما عادت الفهلوة تنفع، ولا عاد صفاء النية مجدياً أيضا، وانتهى بنا الأمر بخدمة عملاء رديئة وبلا ذوق!
حتى على مستوى التعاملات الشخصية، مثل اللفتات اللطيفة التي كانت في الماضي من ابتسامات عابرة يقدمها المارة لبعضهم وإيماءات ترحيب يتبادلها الناس في الشوارع، أصبحت على وشك الانقراض! لأنها غير مألوفة عند الأقليات بشكل عام، فلم تكن تبادل بنفس الطريقة؛ فقلت تدريجياً مع الوقت مع كثرة المهاجرين، وبالتأكيد ستأتي ساعة ستنهي فيها تماماً!
وعلى الرغم من إن كل ما سبق ذكره يعتبر بسيط وشبه مستتر وعلى نطاق صغير؛ لكنه ملحوظ جداً ويعكس مدى تأثير الأقليات (في ظل وجود الحرية) على سلوك الشعوب على نطاق أكبر!
بالطبع هذه السلوكيات الغريبة التي مارسها الجيل الأول من المهاجرين كانت كفيله بأن تزرع بذرة استياء في سكان أهل البلد! وقطعاً هذا الاستياء ينظر له من الأقليات كعنصرية! لكن الأمر ليس كذلك! فالعنصرية لا تولد نتيجة لحظة، لكن تبدأ عادة بهذا الاستياء الطفيف الذي لا يلبث أن ينمو بسبب استمرار ذلك السلوك الغريب ليتحول إلى عنصرية! فالشعوب البيضاء في هذه المقاطعات الصغيرة لم تعتد أن تتعامل مع الأغراب في القدم، فكان من الطبيعي جداً أن يستقبلوا المهاجرين بشيء من الحذر واليقظة، إلى أن يثبت حسن النية وتشابه الثقافة؛ لكن إن ثبت العكس، فيعاملوهم بشكل مختلف؛ وهذا ما يحدث عادة، لأنه من الاستحالة أن تتوحد ثقافات الشعوب! وهذه طبيعة بشرية لا تقتصر فقط على الشعوب البيضاء بل على البشر ككل! ولهذا السبب عينه بدأت كندا في تغيير بعض القوانين وفرض قوانين جديدة خاصة بالتعامل مع المهاجرين لجمح تلك الغريزة البشرية العنصرية حتى تستمر كندا في التقدم والنجاح! وهذا أمر يجب أن يحسب لكندا، قد فشلت فيه الشعوب العربية تماماً! فهناك عدة حقائق يجب إدراكها: لا أقلية بلا تأثير، ولا تعصب بلا سبب، ولا حرية وديمقراطية بلا التزام بالقوانين، ولا قيادة بلا رؤية!