عبد المسيح يوسف يكتب: حكايات الحرمان والفل (3): عذاب التهجير
تمر الأيام ويجتهد يوسف، ويضع القرش علي القرش، ليحوش قدر من المال من بيع الحمص والترمس والورود في حدائق مدينة الإسماعيلية. وتفكر فيكتوريا في أن تزوج ابنها البكر يوسف، لكنه يرفض في البداية لأنها رفضت حبه من فوزية قريبته من طما.
ويسافر يوسف إلى الجيزة، عند بيت خاله شنودة، الذي كان حنينا علي يوسف وأخواته اليتامى أبناء فيكتوريا. ويذهب يوسف إلى بيت جده أبو أمه فيكتوريا، حيث يوجد خاله شنودة. ويوجد هذا البيت في الجيزة القديمة، وتحديدا في شارع شبيطة خلف مستشفيي أم المصريين.
ويرحب به خاله شنودة كثيرا. ويجلس يوسف مع أبناء خاله أمام باب بيت جدهم. وفجأة تمر فتاة فاتنة الجمال، شعرها طويل مثل خيوط الحرير، وبشرتها سمراء، في لون القمح رمز الخير، وقوامها ممشوق، وكلها حيوية ودماء تتدفق بكل حنية في جسمها. ويفتن يوسف بهذه الفتاة.
ويسأل خالته عزيزة عن هذه الفتاة، فتخبره أن اسمها فرحة، وهي فتاة يتيمة تتعلم الخياطة في مشغل الخياطة التابع لكنيسة مار مرقس في الجيزة القديمة. ويعرف يوسف من خالته عزيزة، أن فرحة من أسرة علي قد حالها، ومات أبوها وأمها، وتولي تربيتها أخوها الكبير ملاك، الذي كان رغم ضيق الحال، متحملا لمسؤولية أخوته الأصغر منه فرحة وسميرة وعوض، حيث تولي تربيتهم في بيته مع أبنائهم.
يسر الأمور علي ملاك أن زوجته كانت ابنة عمه، وبالتالي فأخوته ليسوا غرباء عنها، ورغم ضيق الحال، لكنها كانت حنينة علي أخوة زوجها. وكانت فرحة شعلة نشاط، ومتقدة الذكاء.
وحاول ويوسف أن يستوقفها أمام الباب أكثر من مرة، ليتحدث معها، لكنها كانت أبنة الكنيسة، ترفض الحديث. ومرت عدة أيام وباءت كل محاولات يوسف بالفشل.
وكان يوسف يتسمر أمام شقة أخو فرحة الصغيرة في بيت جده (جد يوسف).وفجأة قرر يوسف أن يتزوج هذه الفتاة اليتيمة، التي كانت ظروفها متشابهة مع ظروفه، فالاثنان يتامى.
ورغم صعوبات المهر والشبكة والزواج، بسبب قصر اليد لكل من عائلة يوسف وفرحة، ورغم تعدد مشكلات العزال والعفش ومكان السكن، وكيف لتلك الفتاة أن تترك الجيزة وتذهب لمدينة صغيرة هي الإسماعيلية.
وتم الزواج في كنيسة مار مرقس، وذهبت فرحة مع يوسف، للإسماعيلية. وكانت فرحة نشيطة وذكية. وذهبت إلى الإسماعيلية لتعيش في حجرة صغيرة وبسيطة الحال. وشجعت زوجها يوسف علي العمل، وكانت نعم السند له، تساعده في إعداد عربة الترمس والحمص والورد، وبعد ذلك شجعته علي بيع الفول المدمس والطعمية، وساهم هذا بصورة كبيرة في أن يدخرا قدرا من المال، خاصة وأن الأمانة كانت أحد أهم سمات يوسف. وساعده بيع الفول المدمس والطعمية، أن يتعرف علي عدد من العائلات المهمة في الإسماعيلية، من بينها عائلة ضابط كبير في وزارة الداخلية.
وتمر الأيام، ويقع أخيه جابر في مشكلة كبيرة، وتحزن الأسرة كلها، وتبكي فيكتوريا وابنتها فايزة علي اخيها، وتطلب فيكتوريا من يوسف أن يتصرف. وتضيق الدنيا في وجه الابن البكر، لأنه لا يعرف كيف يتصرف. وتتحدث معه فرحة، التي كانت متقدة الذكاء، ورغم صغر سنها وجمالها، كان تفكيرها دائما طويل الأمد. فتتحدث فرحة مع يوسف، وتطلب منه أن يذهب لزوجة الضابط الكبير، الذي يبيع لهم الفول لمساعدة أخيه الغالي جدا عليه، جابر.
وبالفعل تحن زوجة الضابط الكبير، بسبب بكاء الشاب يوسف علي أخيه وموقفه الصعب في مركز الشرطة، وتتحدث مع زوجها، الذي يتحدث مع ضابط المركز، ويخرج جابر بعد مرور 3 أيام بسبب مشاجرة مع مجموعة من البلطجية اعتدوا علي لرغبتهم في الحصول علي الفول والحمص والترمس منه دون أن يدفعوا له أى مليم.
وتمر الأيام بحلو ومرة، وينجب يوسف وفرحة إبنه جميلة، يسميانها أمل، لعلها تكون بشرة خير، وأمل لهما في الحياة. وتأتي حرب 1967، وتكون الأيام سوداء خاصة لسكان مدن القناة الإسماعيلية وبورسعيد والسويس.
ويهجم العدو الإسرائيلي بالطائرات علي مدن القناة. وتموت أمل بسبب الغارات. وتتهدم الغرفة التي كان يعيشان فيها. وتسود الحياة في عيون يوسف وفرحة.
أيام سوداء تعود من جديد تكسو حياة يوسف، بعد أن بدأت حياته تستقر بعمله الدؤوب ومساعدة زوجته فرحة التي كانت تخيط الجلاليب والبيجامات، فتساعده في جمع المال.
وكان يوسف يعشق فرحة لأن كتفها كان بكتفه. وكانت تساعده، ولا تقول أبدا أنها تعبانة، لأنها كانت يتيمة وتعودت علي حياة الشقاء والتعب.
وتستمر الأيام سوداء، ولا يعرف يوسف ماذا يفعل، فلا يوجد لا بيع ولا شراء في مدن القناة، وبدأت الناس تهاجر من الإسماعيلية، لمختلف مدن مصر.
تتحدث فرحة مع زوجها وتقترح له أن ينتقلا إلى الجيزة، بدلا من الإسماعيلية، لأنه لم يعد فيها أكل عيش لهما. ويتخوف يوسف من الانتقال لمدينة جديدة بعد أسيوط. ولكن فرحة تشجعه. وتقترح له أن يذهبا في البداية عند أخيها ملاك.
ويقتنع يوسف، ويتركا الإسماعيلية في سنوات التهجير للجيزة، ويسكنا عدة أيام في شقة ملاك الصغيرة، الذي انتقل من بيت جد يوسف، لمنطقة المنيب. ويشعر يوسف الذي كان حساسا للغاية بسبب ثقافته كيتيم بأنه ثقيلا علي ملاك أخو فرحة.
ويتحدث مع خالته عزيزة، حيث كان لديها قطعة أرض في منطقة العمرانية، مبنية بدون سقف، فتوافق خالته أن يعمل لها سقف من الخشب والكراتين ليعيش فيها مع فرحة.
وتمر الأيام أسود من قرن الخروب. وكانت فرحة دائما تشجعه وترفعه من معنوياته، لأنها أصيلة، وتحدثه دائما أنهما كانت يتامى، وأن الله لن يتركهما، ولكن يجب أن يعملا.
وتخبر فرحة زوجها يوسف، أنهما نجحا في ادخار 80 جنيه. ويجب أن يشتريا حتة أرض، ويبدأ في العمل، ليجمعا المزيد من الفلوس.
ويشتريا قطعة أرض صغيرة في العمرانية. ويسددا المقدم، ويقسطا بقية سعر الأرض علي شهور. وتمر الأيام، والأحوال ضيقة، ولا يجد يوسف، الربع جنيه ليشتري به اللحمة لبيته، ورغم عمل فرحة بالخياطة، وجنيها بعض المال، مع زوجها الذي عاد للعمل في بيع الفول المدمس والخضروات، تمر الأيام سوداء، والفقر هو المسيطر علي أحوالهما.
ورغم كل هذا، كان يوسف طموحا، ويري في الأحلام السبيل الوحيد للحياة والتطور، رغم ظروفه الصعبة. وكان من بينه أحلامه، التي يشارك فرحة فيها، أنه يتمني أن يخلف ولدا، يساعده علي مشاكل الحياة، ويتمني أن يعطيه عينيه، ويعلمه أحسن تعليم، ويسافر أمريكا ويكلمه في التليفون، ويقوله يا دكتور، عشان يفتخر به بعد كل هذا الذل والتعب والأيام السوداء، وبعدها يضحك ويقولها هل يا فرحة هنستمر طول عمرنا في الفقر والتعب، ولا ربنا هيحقق أمانينا ويعوضنا عن التعب دا. وتمر الأيام وتنجب فرحة ابنة ثانية بيضاء اللون جميلة الملامح ويسميانها، كريمة، وبعدها بعامين ينجبا بنت ثالثة يسميانها ماري. ويبدأ يوسف يقتنع أن كل خلفته بنات، ويسبب هذا له بعض التعب النفسي، لأن مرحلة يتمه الطويلة، جعلته يتمني أن ينجب ولدا. وتمر السنوات سوداء، حتى تأتي فرصة، وتكون هناك تعيينات في مرفق مياه القاهرة، يطلب عمالا وحرفيين في قطاعات عدة، منها الميكانيكا.
ويتقدم يوسف مع مئات المتقدمين، ومن حسن طالعه أن يكون رئيس لجنة الاختبارات اسمه الأستاذ نظير، وهو نفس أسم والده، يوسف نظير. ورغم أن عدد الراسبين في الامتحان كان كبيرا، إلا أن عمل يوسف بالسواقة والعربيات في صدفا، جعل لديه فكرة كبيرة بالميكانيكا والسيارات، وينجح يوسف في الاختبار، ويصبح موظفا في جهة حكومية، يتقاضى منها 6 جنيهات و30 قرشا..... يتبع