ابرام مقار يكتب: سنغافورة .. قطار لن نلحقه!
يوم الخميس، الرابع عشر من هذا الشهر، أدت "حليمة يعقوب" اليمين الدستورية كأول أمرأة مسلمة رئيسة لسنغافورة، والرئيسة الجديدة تنتمي إلي الملايو وهي مجموعة عرقية من الشعوب الأسترونيزية، يتكلمون اللغة الملاوية ويعتنق أغلبهم الإسلام بمذهبه السني. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كيف إستطاعت أمرأة ومن أقلية مسلمة لا تتجاوز 14 بالمائة الوصول لهذا المنصب؟. كيف وصلت سنغافورة وشعبها لهذا القدر من التسامح وهي الدولة والتي في عام 1965 تنازلت عنها ماليزيا بسبب كثرة النزاعات العرقية بين فئاتها؟. في الحقيقة أن تلك الأسئلة هي جزء من سؤال أكبر وهو "كيف وصلت سنغافورة إلي ما هي عليه الأن من تحضر وتقدم فقط في خمسون عاماً فقط؟". كيف وصلت بلداً متخلفاً تشتري المياة من جيرانها ويعيش 70 بالمائة من سكانها في فقر مدقع ويفترشون الأرض والعشوائيات وأكثر من نصف سكانها أميين إلي واحدة من أسرع الأقتصادات نمواً بالعالم وسادس أعلي دخل للفرد بالعالم ، وثالث أكبر مركز لتجاة النفط بالعالم، ورابع أكبر سوق صرف أجنبي في العالم، وأقل الدول فساداً بالعالم ، ولديها أكثر المطارات والمواني إزدحاماً ، وعدد السياح القادمين لها سنوياً ضعف عدد سكانها. الحقيقة أن الأجابة هي معجزة أسمها "لي كوان يو"، والذي تم تعيينه رئيس وزراء في ستينيات القرن الماضي، والذي أول ما بدأ حرص علي توحيد الدولة لهدف واحد عبر زرع الوحدة الوطنية بين الطوائف البوذية والطاوية والمسيحية والهندوسية من خلال إزالة جميع الفوارق بين الأعراق والأديان والأجناس، وإختيار الأفضل لتولي الوظائف مهما كان أنتماءه الديني ، وطرد ثقافة التعصب وإستبدالها بثقافة تقديم مصلحة الدولة علي أية مصلحة خاصة لطائفة. بالإضافة إلي مكافحة الفساد وملاحقة الفاسدين وتطبيق القانون علي الجميع بمساواة، وعلي الجانب الإقتصادي شكل "لي كوان يو" حكومة بها أفضل الخبراء لجذب الأستثمارات الأجنبية. ولأنه كان مؤمناً بالإستثمار في الأنسان، دفع شعب سنغافورة إلي التعلم. وجعل المعلم هو المهنة الأعلي دخلاً بالبلاد. وحول العشوائيات إلي ناطحات سحاب، فأصبح 85 بالمائة من السنغافوريين لهم سكن محترم. وكل ما سبق من عدالة ومساواة وإعلاء القانون علي الجميع جعل من التعايش بين طوائف عديدة متناحرة أمراً سهلاً وأرتفعت قيم قبول الأخر، وجعلت منصب الرئاسة بعد عقود من الخلافات محجوزة - بكل تسامح ونبل - هذه المرة لمرشحة من أقلية الملايو، لتعزيز الشعور بالشمول في الدولة متعددة الثقافات. تجربة فريدة محترمة نحلم بأن نراها في وطننا الأم، فلم نري بعد في الوطن الأم من يقيم دولة التسامح والتعايش ومكافحة الفساد وأختيار الكفاءات ومنع التمييز، ومازالت الأقلية القبطية تناضل من أجل حق المساواة بينما تناضل الأقلية الشيعية والبهائية من أجل حق الحياة. والطريف في الأمر أن الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر كل ما فعله أمام هذا الموقف المثالي هو أنه هنأ "حليمة يعقوب" بالمنصب بإعتبارها مسلمة وكان الأولي به أن يشكر شعب سنغافورة علي هذا المقدار من التسامح وقبول الأخر وإعلاء المواطنة، ولكن من الصعب أن تطلب من مؤسسة تُعتبر منبع للطائفية والتعصب أن تقبل أو تدرك قيم التعايش والتسامح وقبول الأخر التي تحدث في بقع العالم المتحضر.