د. محمد وجيه الديب يكتب: التاريخ .. بوابة الحاضر ونافذة المستقبل (الجزء الأول)
كان التاريخ وسيظل دائماً هو المُعلم الأول والمُلهم الأوحد الذي لم يكذب قط .. والذي نجد فيه دائماً وأبداً العبرة والعظة ..
يفتح لنا التاريخ فصلاً من فصوله الخالدة التي لا تُنسى ، وهو عن أسطورة "الإتحاد السوفييتي" أكبر دولة على سطح الكرة الأرضية منذ نشأة العالم ، حيث وُلد هذا الكيان الهائل من رحم الإمبراطورية الروسية ، وكاد في لحظة ما أن يصبح قطب العالم الأوحد ، ولذلك كان لابد لأمريكا من تدميره ، فلم يبدأ القضاء علي الإتحاد السوفييتي بالدبابات العسكرية والفرقاطات البحرية والطائرات الجوية .. مطلقاً ..
فقد بدأ عن طريق "الحرب الباردة" ، وكان أحد أبرز أركانها رئيس زرعه الأمريكان .. وتدرج في مناصب سياسية .. ووصل لمنصب الأمين العام للمجلس السوفييتي في عام 1985.. ومن هنا تولَّى حكم الإتحاد السوفييتي بترشيح المجلس السوفييتي ، وبدأ يتحدَّث عن مفاهيم الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان وغيرها ..
وكان يروج لمصطلح خاص وهو "البريسترويكا - Perestroika" .. أو "إعادة البناء" ، فقد كان مؤمنا بسياسة الهدم عشان نبني علي نضافة ، والتفكيك عشان نبدأ من جديد ..
وبالفعل تم تفكيك كل مؤسسات الدولة وجعلها غير فاعلة وبلا قيمة ..
ومع البريسترويكا .. أطلق سياسة أخرى اسمها الـ "جلاسنوست Glasnost" .. وتعني الشفافية ، ولكن الشفافية بدون حساب التي تفضح أسرار الدولة وتعرِّيها لمصلحة الأعداء ، فأعلن ميزانية الجيش على الملأ وفضح ميزانية المخابرات السوفييتية لأول مرة في التاريخ ، وتبادل أسرارها مع دول أخرى ، تماماً كما حدث في مصر أثناء فترة حكم المتأسلمين عندما تم تسريب وثائق سرية عن تجهيزات الجيش المصري لدولة قطر ..
تسببت سياسة الرئيس الروسي في هزيمة المخابرات السوفييتية في مئات العمليات الإستخباراتية ، وتم فتح الأسواق على مصراعيها للبضائع الأمريكية وروَّج لها على حساب الصناعة الوطنية ، وبدأ الشعب يغرق في الهلس والهمبرجر والماكدونالدز والكنتاكي وإتعلم التنبلة وإتعلم يستهلك وماينتجش ..
ومع بدء مشروعه لتقسيم الإتحاد السوفييتي ، أدركت قيادات الجيش الأمر وقرروا حماية الوطن بأي ثمن ، فانطلقت المدرعات تهدر وجنازير الدبابات تمزق الثلوج وحاصرت مقر الحكم ، وبدأت في إجراءات خلع الرئيس العميل ، ولكن لسوء الحظ اصطدموا بقوة لم تكن في الحسبان .. ألا وهي الشعب ..
الشعب اللي لبس العمَّة وفهم إن الحياة هي الهمبرجر والفودكا والتنبلة والدعارة والأسعار الرخيصة حتى لو على حساب الشعب نفسه ، ووقف الشعب كدروع بشرية لحماية الرئيس السوفييتي ، وأصبح قادة الجيش أمام قرارين لا ثالث لهما ، إما المُضي في محاولتهم ، مما كان سيؤدي حتما إلي حرب أهلية ربما كانت لتظل مستمرة حتي اليوم ، أو إنسحابهم ومحاكمتهم وربما إعدامهم ، وإختار قادة الجيش الحل الثاني ..
وإستقر الرئيس الروسي في منصبه مدعوماَ بالشعب ، فما كان منه سوى أن كافأ بدوره أنصاره من الشعب بتقديم الدعم علي كل السلع تقريباً وإنخفضت الأسعار لدرجة رهيبة أسعدت الناس أكثر وأكثر ، ولكن من ناحية أخرى كان الإحتياطي المحلي يتناقص بسرعة مذهلة والموارد تقل وإنهار الإقتصاد السوفيتي فجأة ..
ومع إنهياره تضاعفت الأسعار في يوم و ليلة مئات المرات وأصبحت العملة بلا قيمة ، وسقط الإتحاد السوفييتي سقوطاً مدوياً وتفكك في لمح البصر ، وحصل الرئيس العميل على "نوبل للسلام" وتقاعد وسافر للولايات المتحدة تاركاً وراءه دولة مفككة مقسمة وفقر وجوع ومرض وأوبئة ومافيا وحرب عصابات وحروب أهلية طاحنة ..
وفي نفس الفصل من كتاب التاريخ نقرأ عن دولة كان إسمها "يوغوسلافيا" ، وكانت دولة قوية تعتمد علي "الإتحاد السوفيتي" و تعتنق مبادءه الشيوعية ، وبعد سقوط الإتحاد السوفيتي بدأت يوغوسلافيا هي الأخري في الإنهيار وتم تقسيمها إلي صربيا والجبل الأسود وكرواتيا وسلوفينيا والبوسنة والهرسك ومقدونيا ، وبدأ الصرب في ضرب الكروات ، ثم بدأ الإثنان في ضرب البوسنة في المجازر الشهيرة 1996
وفي عام 2006 أعلنت كل من صربيا والجبل الأسود إستقلالهما عن الإتحاد اليوغسلافي ليعلن رسميا زوال يوغوسلافيا من الوجود ، وتلاشت ولم يعد لها وجود بأيد أهلها ..
وفي المقابل نجد أن كل الدول التي ساهمت في تفتيت وتفكيك هذه الدول العملاقة السابقة يفعلون العكس تماماً ، فنجد أمريكا خاضت وتخوض حروبا طاحنة لتحافظ علي وحدة الولايات "المتحدة" الأمريكية .. برئيس وبرلمان وجيش واحد ..
ألمانيا الشرقية والغربية قامت بهدم "سور برلين" التاريخي حتي تصبح "ألمانيا الموحَّدة" ..
معظم دول أوروبا تجمعت تحت كيان "الإتحاد الأوروبي" وأصبح لها "عملة واحدة" ..
بريطانيا تجمع أيرلندا وأسكتلندا وويلز ودول الكومنولث تحت التاج البريطاني لتسمي نفسها المملكة "المتحدة" و"بريطانيا العظمى" ..
فقد بات يقينا أن الدول الإستعمارية أدركت كلمة السر وهي أن الشعوب الغبية يدا بيد مع الحُكَّام العملاء أو الطواغيت من عبدة الكرسي هم الوسيلة المؤكدة لإسقاط الدول التي لا تسير في فلكهم وهدم الكيانات الواعدة ، أما إذا حاولت إحدي هذه الدول أن تتصدي للمخطط وأن تخرج من فلك المؤامرة يخرج عليك بنظرية شمشون الخالدة : "عليَّ وعلى أعدائي" ..
وأصبح جليَّا واضحا أن مصطلحات العولمة والحرية والديموقراطية وإعادة البناء وتغيير الهيكلة وحقوق الإنسان ما هي إلا بوابة الجحيم التي تُفتح لتسقط فيها فقط الشعوب المُغيَّبة المتخاذلة الكسولة الثرثارة ، والتي لا تتجاوز أولوياتُها جوف معدتها وتعيش بمبدأ "عُض قلبي ولا تعُض رغيفي" ، فتتحدث أكثر مما تعمل ، وتشكو أكثر مما تُنتج ، فقد بات الإختيار في منتهي الوضوح ، وأصبح الطريق في غاية التحديد بلا تجمُّل أو تملُّق أو خداع أو مراوغة ..
وللحديث بقية في الجزء الثاني مع فصل آخر من فصول التاريخ ..
د/ محمد وجيه الديب .. أستاذ طب وجراحة العيون – جامعة القاهرة