دولا أندراوس تكتب: حدوتة جدتي
كانت جدتي تقطن بشقة صغيرة في الدور الأول بإحدي العمائر الملاصقة لعمارتنا وقد تعودنا حين كنا صغاراً أن نقضي فترة الأجازة الصيفية معها لأن أمي كانت إمرأة عاملة وكان بيت جدتي هو المكان الوحيد الذي تستأمن تركنا فيه لساعات طوال كل يوم.
كانت جدتي إمرأة نشيطة تستيقظ مبكراً وتأخذ حمامها اليومي ثم تعد قهوتها الساخنة لتحتسيها في الشرفة وهي تتسلي برؤية الرائح والغادي... وكنت أحب أن أجلس إلي جوارها وأستمع إلي مناقشاتها مع المارة من سكان المنطقة الذين كانوا يتباركون بها ويقفون لتحيتها كل صباح. وكان يمر عليها أيضاً الباعة الجوالون فتشتري منهم مايلزم لطبيخ الغذاء وتنشغل برهة في إعداده حتي ترجع أمي من عملها فنأكل من يديها أطعم أكل في الدنيا.. وكانت تعرف هؤلاء الباعة بأسمائهم وتحب مشاكستهم فتدخل معهم في فصال حول السعر-عادة ما ينتهي بفوزها- ولكن بمجرد ما أن يستسلم البائع ويرضخ للسعر الذي حددته وما أن يقول لها:" خلاص يا ست.. إدفعي اللي تدفعيه". حتي تضحك فرِحة بإنتصارها ثم تعطيه السعر الذي طلبه منها في البداية.
كانت إمرأة بسيطة لم تكمل تعليمها إذ أصر والدها علي تزويجها في سن صغيرة فعاشت في كنف جدي سنوات طوال وهي بمأمن من قسوة الأيام وضربات القدر.. فلما توفي جدي سارع إخوته بالإستيلاء علي إرثه مستغلين بساطتها وعدم درايتها بأي شئ عن ممتلكاته. ولم تنل المرأة من التركة سوي عمارة بأحد الأحياء الفقيرة تدر ريعاً بسيطاً عاشت عليه ما تبقي من حياتها ومنه أنفقت علي تعليم أولادها وسد كافة إحتياجاتهم. وكان طبيعياً أن تخور المرأة في الطريق وهي التي لم تعرف من الدنيا سوي العيش الهانئ الرغيد.. إذ فجأة تجد نفسها في مواجهة الحياة وجهاً لوجه ..بلا رجل.. بلا عمل .. وبلا أي سند من أي نوع.
ولكنها علي غير المتوقع أظهرت صلابة وقوة تحمل لا تكون إلا لمتمرس عرك الحياة وعركته.. وتحملت بجلد وثبات غدر الحياة وصبرت علي لؤمها وهي تكيل لها الأزمات واحدة تلو الأخري إلي أن تخرج الأولاد وتزوجوا وإمتلأت شقتها الصغيرة مرة أخري بالأطفال والضحكات.
جلست إلي جوارها ذات يوم حتي فرغت من إحتساء قهوتها ولما قلبت الفنجان علي فوهته إستعداداً لقراءته أمسكتُ به وأخذت أقلبه بين يدي كما يفعل ذوو الخبرة وقلت بلهجة العارفين بتلك الأمور:" دعيني أقرأ لك الفنجان يا تيتا".. فضحكت في مرح وسألتني:" هل تعرفين قراءة الفنجان؟" فأجبت بثقة:" طبعاً!" ونظرت إلي قعر الفنجان فرأيت ما يشبه الطريق فرددت ما يُقال عادة:" قدامك سكة سفر". وسافرت جدتي بعد ذلك بايام قليلة.. سافرت إلي مكان تستريح فيه من وعثاء الرحلة وتركت وجهاً دائم الإبتسام يحملني كلما تراءي لي إلي أيام الحلم البرئ والطفولة الجميلة.