جورج موسي يكتب: الجبل!
ظلت قرابة الساعة تشكره على ما فعله اليوم من أجلها فقد ذهب معها إلى الطبيب وأحضر الدواء وأعطاها إياه، شكرته فنظر إليها وقد مر أمام ناظريه فقط الجزء الذي علمه من معاناتها في الحياة لأجله (فقط الجزء الذي علمه) نظر إليها وصمت، قالت له لماذا تصمت يا بني؟ أجاب حري بنا الصمت إذا لم نجد الكلام يا أمي! ابتسمت وقالت فلماذا تنظر إليّ هكذا؟! قال لها لم أكن أنظر إليكِ يا أمي، كنت أنظر إلى الجبل الذي يشكر بضع صخور سقطت لتوها من على كتفه ونسي أنه حملها كل هذا الزمن! ابتسما سوياً وقالا النكات وذهب إلى منزله وتركها.
وتمر السنون ويزورها مرض الموت وكان يجلس بجوارها باكياً وهي في لحظاتها الأخيرة فوجدها تفتح عينيها وتبتسم له وتقول: هل مازلت تنظر إلى الجبل؟ قال لها نعم، قالت له إذن يا صخرتي الصغيرة أنظر إلى جبلك لأخر مرة وأغمضت عيناها وهي تبتسم! ودعها باكياً!
وتمر السنون ويكبر أبنه ويدخل الجامعة ويختلف معه خلافاً كبيراً ويصر الأبن على ترك المنزل، تبكي زوجته بحرقه فيطمئنها قائلاً: أطمئني سيعود، حتما سيعود، حاول أن يخلد للنوم ولكنه لم يستطع من الحزن والقلق والبكاء على ابنه، في فجر نفس الليلة يفتح أبنه الباب ويهرول إلى غرفة أبيه ويرتمي باكياً في حضنه ويقول: جبلك جاء لي في حلم لأعود إليك مسرعاً ويقول لك لا تحزن ولو لليلة واحدة يا صخرتي الصغيرة! حتى بعد الرحيل تحملك على الأكتاف يا أبي.... تمت.
وتبقي كلمة
حين ترحل الأم يثور البركان وتنشطر حياتك إلى نصفين! فتبدأ مرحلة ما بعد رحيل (الحب) وما بعد رحيل (المجان)! فقد رحلت تلك التي أحبتك بالمجان! وآمنت بك بالمجان وسهرت بالمجان وأعطتك بالمجان وتحملت جموحك وطيشك وحملك بالمجان وجعلتك سيداً لها بالمجان بل وتمنت أن تجعلك سيداً لهذا الكون أيضاً بالمجان! باختصار حين ترحل الأم يرحل (المجان) ويرحل معه نصف الإنسان!
أحن إلى كسرة خبزك وقت جوعي.
وشربه ماء وضمة صدرك وقت روعي.
وكلمة أمي تطرب لساني
وأسمي بين شفتيكِ يرقص سمعي!
أحن إلى شجاري معكي.
إلى شكواكي مني!
إلى صلواتك عني وقت مرضي.
أحدث صورتك طوال يومي
أخالك ستردين فيخيب ظني.
أحن إليكي باكية يوم زفافي
أحن الي نور عينيكي الصافي
وإلى قطعة من هدب ثوبك
أحضنها وأنعم لمستها
حنانيكي يا ذكرى لأذكرها، بأيام لم تعد تذكرها
بطفل صغير تعلق في هدب ثوب
كم ملك الكون بيده حين كان يحضنها!
حنانيكي يا ذكري لأذكرها! بأيام لم تعد تذكرها!