هاني صبحي يكتب: كان يضرب لصاً واحداً.. فلماذا كان يصرخ: يا ”ولاد” الكلب!!..”سواق الأتوبيس”
بقلم: هاني صبحي
في شوارع القاهرة الزحمة، وجوه اتوبيس برضه زحمة بيسوقه حسن، وصرخة مدوية لامرأة فقدت حافظة نقودها، يبدأ فيلم "سواق الأتوبيس" زي ما انتهى برضه، والاتوبيس والزحمة ومعاهم نفس حادث السرقة حاضرين في المشهد..لكن شتان الفارق بين البداية والنهاية.
فالبداية كانت الصرخة معتادة ومش غريبة على ودن سواق، ياما دقت على راسه طبول، أكسبته المناعة النفسية ضد التعاطف، التضامن، الإستعداد للمساعدة.. فقط اكتفى بفتح الباب لملاحقة النشال بنظره فقط، دون أن تطاوعه قدمه على النزول للجري وراه..بل بالعكس..استجاب سريعا لمفهوم الياكش تولع، واستسلم لنداءات الركاب وكلاكسات السيارات اللي وراه تحت شعارات المرحلة، وتطبيقا لنظرية وأنا مالي اللي سادت عصر الإنفتاح.
أما النهاية فكانت على العكس تماما.. الغضب في الملامح حل محل التبلد، والقدم اللي داست سابقا بنزين، داست بقوة على الفرامل، والقرار بفتح الباب لمطاردة الحرامي كان حاسما غير عابئ بالشارع والركاب وكلاكسات المستعجلين.. والهدف.. كان الحرامي، حتى لو اضطر يواجهه وهو بيلوح في وشه بمطوة قد تقضي على حياته.. والنتيجة.. حرامي يتلقى عشرات اللكمات. وشه غرقان بالدم.. وصراخ مدوي لسائق اتوبيس يهتف بصيغة الجمع: يا "ولاد" الكلب.
تلك الشتيمة المباشرة اللي كانت نادرا ما بنشوفها في الافلام، لفتت نظر إحدى المذيعات، فسألت في مرة بشير الديك: كنت تقصد مين بولاد الكلب في المشهد الاخير؟ فأجابها فورا: أقصد "كل" اللي سرقوا الحلم المصري!! إجابة ممكن يرد عليها أحدهم ويقول له ايه ياعم بشير الكلام الكبير ده؟ حلم ايه ومصري ايه! ده حياله نشال اتوبيسات!! لكن الحقيقة.. إن أحداث الفيلم أعطت للإجابة دي مبرر مقبول، وهنعرف إن حسن مكانش بيضرب بقوة، ويشتم بحرقة، مجرد نشال سرق شنطة من واحدة في اتوبيس.. كان بيصرخ في وش اللي دمر القيم، وأرسى قواعد الأنانية والانتهازية اسلوب حياة لمن استطاع إليه سبيلا، ورمى بذرة التشوه فطرحت فساد، اللي زيف الوعي واستهدف ثوابت المجتمع واخلاقياته ومبادئه العامة..وحتى وطنيته وانتماؤه.
كانت لكماته طالعة بكل غل في وش كل اللي كسر نفس الناس واحبطها وضيع حلم المواطن المصري في مستقبل أحسن، بعد ما عانى من الحروب وعاش في حلم الاستقلال والرخاء والعدالة بعد حركة يوليو وظباطها الأحرار، ولما داق مرارة طعم النكسة، بلده قالت له قوم وحارب في الاستنزاف وافرح بنصر، اللي صنعه كفاحك وصبرك، وتحملك للأزمات، وتضحياتك في أكتوبر.. النصر اللي الوعود بعده زرعت الأمل، وخلت الناس تنتظر الانفراجة والثقة ببكرة أجمل.. فاصطدموا بالرئيس المؤمن بيقص شريط دولة الانفتاح، ويبدر في المجتمع السياسة الاستهلاكية، اللي قادرة بجبروتها تظهر أسوأ ما في النفوس، وتحط الجميع قصاد اختبارات إنسانية، كانت نتيجتها استسلام الكثيرين لشروط المرحلة وأدبياتها..واللي معاه قرش يسوى قرش، وسادت الحكمة الشهيرة ..اللي مش هيعرف يعمل فلوس في عهد السادات، مش هيقدر يكون له مكان تحت الشمس بعده.
الفيلم ناقش معاني العيش والملح، الصداقة، الترابط الاجتماعي والأسري، قيم الوطنية والانتماء للأرض..المكان.. الأصل والجذور .. كل القيم والمبادئ اللي صبرت الناس على الحرب والكفاح، واللي من غيرها مكانش هيكون فيه دوافع للشعب عشان يناضل لتحرير الأرض.. مبادئ كانت أهميتها أرقى من المادة، وقيمتها مكانتش بتتقاس بورق البنكنوت..كل ده انهار بعد ما اتلوثت الفطرة، واختفى دور القيادة تحت العالم والمدرس والمهندس والطبيب..القدوة في المفكر والمثقف والأديب.. واتبدلت الأدوار واتشقلب الهرم الاجتماعي، وبقى المثل الأعلى هو اللي معاه فلوس اكتر.. القدوة هو الشخص اللي بيعرف يلعب بالتلت ورقات..الفهلوي والحلنجي، اللي بيقدر يعمل القرش بأسرع وقت وأي طريقة.. أيا كانت الطريقة.
هما دول اللي الشعب بعد النصر المبين عاش تحت رحمتهم، والشاطر اللي قدر يعيش تحت دراعهم واستفاد من دايرة نفوذهم وسطوتهم.. حسن كان الوحيد في الأسرة وفي المجتمع المحيط بيها، اللي كان حاسس بأبوه، وعارف أنه مش مكبر الموضوع لما كان رافض يبيع البيت وورشة النجارة المتهالكة، اللي حالها واقف والضرايب هتحجز عليها .. الكل كان شايف أنه قرار سهل وبسيط ومربح كمان..الكل كان بيلوم على الحاج ومش فاهم ماذا تعني له الورشة الخربانة دي عشان يتمسك بيها حد الاكتئاب كده..الا حسن ..اللي حارب وواجه وانتصر.. هو كان عارف ان الورشة بالنسبة له هي وطن.. هي نفسه وكيانه والمعنى الوحيد لوجوده وإحساسه بآدميته..كل ركن فيها بيفكره بذكرى، وكل ماكينة بتحكي حكاية عمر من الشقى والاجتهاد والنجاح والإحساس بقيمة الذات.. الورشة المحجوز عليها..المهزومة المجهدة، هي مصر مصغرة في عيون حسن وأبوه، اللي داقوا فيها طعم التعب والمجهود وقت الشقى.. وشافوا منها ابتسامتها وهي بتراضيهم ببيعة ومكسب وإنجاز.
وهي برضه كانت مصر في عين جوز أخته، اللي وثقوا فيه واعتمدوا عليه في إدارتها.. فشفط دمها وطمع فيها..ولما عمل ثروة من السطو على خيرها، رماها جريحة للديون والافلاس..ووقف على انقاضها مستني نصيبه كمان من بيعها والتفريط فيها.. حاله نفس حال اخوات حسن وازواجهن في بورسعيد ودمياط، لما راح لهم يستنجد بيهم يساعدوا ابوهم في دفع المديونية عن الورشة عشان ترجع تشتغل..الكل مشغول بحاله وتجارته وفلوسه، ومحدش عنده استعداد يساعد أبوه..لكن في نفس الوقت الفلوس حاضرة وجاهزة في أي وقت، لشراء البيت والورشة، عشان يهدهم ويطلع بعمارة، ويمحي من الوجود الورشة بكل ما تمثله للأب من قيمة وكيان..عشان يشوفهم الأب اخيرا بعد مهلة مصلحة الضرائب ما خلصت ، جايين من آخر الدنيا بيتصارعوا على حقوقهم فيها، وبيتنازعوا وهما بيورثوه بالحيا..عشان يموت الأب فعلا للمرة الأخيرة ، بعد ما كان بيموت في اليوم ألف مرة بموت الورشة وكابوس ضياعها منه.
يموت الأب المهزوم بنفس مرارة طعم النكسة ، ويعيش الأبناء بالجسد في رحلة المادة والجري ورا الفلوس..وسط مجتمع، كل قيمة فيه متاحة للعرض والطلب، وكل شئ فيه خاضع للبيع والايجار.. كل حاجة ليها تمن وليها مشتري..من اول الأخلاق والقيمة والمبادئ.. لحد الوطن نفسه