زينب علي البحراني تكتب: المُثقفة العربية وأزمة الحريَّة
في كل ثقافة أصيلة شيء من الثورة على الذات وعلى أجزاء من عفونة الواقع التي تنتظر صوتًا جريئًا يكشف عنها ستار النفاق، وحين لا تولد مثل هذه الثورة المعنوية من رحم المعاناة الحقيقية ومخاض مواجهة الصعاب تتحول الثقافة إلى عنوان هش، فقير، أشبه بنبؤة كاذبة لا تقدم جديدًا، ولا تثبت قديمًا، ولا ترتقي بذائقة، ولا تؤثر في شعور، ولا يهتز لها حاضر أو يتأهب لتخليدها تاريخ.
هذه الثورة الفكرية التي تستهدف الوصول إلى بوابة الحرية بعد رحلة مغامرات تختبر صدق المثقف مع ذاته ومعتقداته هي عنق الزجاجة الذي يصعب على معظم المثقفات العربيات اجتيازه لتأكيد وجودهن وحفر أسمائهن بثقة على صفحة الواقع الثقافي العربي، فأكثرهن لا يستطعن تجاوز خوفهن من المكرسات المجتمعية، وقسوة العادات والتقاليد الغابنة لحقوق المرأة، وبطش الأقوياء من أفراد الأسرة. كثير منهن يخشين تحوّل كلمة جريئة يكتبنها إلى مشروع فضيحة، ويخفن أن يذيلن كتاباتهن بأسمائهن الصريحة، ويأكلهن الرعب من أن يبدين وجوههن للعالم، ولا يمكننا توقع ولادة ثقافة تهزم الخوف على الورق ما لم تكن ابنة شرعية لثقافة داخلية سبق وأن هزمت خوفها الإنساني الشخصي بالتدريج أمام صور القمع وقوى الاستلاب لحقوقها الإنسانية.
صحيح أن هناك نماذج استثنائية انتصرت على هذا الخوف بشجاعة منقطعة النظير، لكن الأكثرية المتوارية وراء كواليس المشهد الثقافي؛ والتي تطل على واجهته بأصوات خجلة مبحوحة لم تتخلص حتى اليوم من إرث اعتبار أن وجودها "عورة" لا تستحق حتى التعبير عن رأي صريح؛ ولا يمكننا توقع الكثير من هذه الأكثرية كما لا يمكننا لومها بالنظر إلى واقعنا العربي الذي لازال مريضًا في نظرته الدونية لكيان المرأة، وفكر المرأة، وربما حتى إنسانية المرأة، بغض النظر عمّا يتشدق به الإعلام من شعارات توهم السامعين بأنها من أقوى الداعمين لحقوق المرأة!
المرأة المثقفة في كثير من بقاع عالمنا العربي تخشى حضور فعالية ثقافية لئلا ترجم سمعتها، وتخشى إبداء وجهها دون نقاب كي لا تطعن في شرفها، وتخشى كتابة سطرٍ يعبر عن رأي شجاع عبر مواقع التواصل الاجتماعي الإلكترونية حتى لا تفترس اسمها ألسنة المعقدين تجاه النساء، وقد تخشى نشر رواية عاطفية بريئة فتحرم من حقها في الزواج إلى الأبد! قد يبدو فيما أشرتُ إليه شيئًا من المبالغة لمن لم يخض تجربته، لكنني لا أشك لحظة واحدة في أن كثيرات ممن قرأن السطور السابقة يؤمنّ سرًا على ما أقول دون أن يستطعن الإفصاح عن تأييدهن له.
نحن بحاجة إلى وعيٍ جمعي استثنائي يقلب المقاييس التي تمت بها برمجة عقل المجتمع رأسًا على عقب لأن الوعي الفردي لا يقوى على مقاومة الكثرة مهما كان شجاعًا، بحاجة إلى وضع الأشياء تحت مسمياتها الصحيحة قبل أن يستمر تشويه المفاهيم الجميلة، وتكميمها في كفن من القبح والبلادة وانعدام الحياة.