هاني صبحي يكتب: ”القفة” اللي ليها ودنين.. راحت فين؟!
بقلم: هاني صبحي
المتابعون للشأن المصري، سواء من طايفة الهتيفة أو من المخلصين.. معارضين كانوا أو مؤيدين، أو حتى خبراء اقتصاد محايدين.. الكل بيجمع على إن هناك مشكلة اقتصادية، بتلقي بظلالها على البلد وبيتخلق على إثرها مشاكل اجتماعية ونفسية.. الكل على اختلاف ميوله بيقرع الأجراس وبيدق نواقيس الخطر.
لكن من وجهة نظري وبحسب متابعتي الميدانية كمواطن، أزعم إني بحسب نمط حياتي وظروفي الشخصية، قريب بطبيعة الحال من نبض الناس . بتستوقفني مشكلة أعمق من كل التحليلات الاقتصادية والأرقام والبيانات والإحصاءات الرقمية المجردة.
الأزمة الحقيقية اللي بقالها فترة ملموسة هي انخفاض نسبة المهارات الشخصية والحياتية عند المواطن المصري، في التعايش مع عوامل الفقر وضيق الحال.. قلة ممارسات التحايل التاريخية المذهلة على الظروف.. الشعب المصري، اللي دونا عن شعوب العالم، كان دايما مبتلي للغرابة الشديدة بطبيعة بلده وموقعها الجغرافي العبقري. وخير أرضها وثرواتها الطبيعية المهولة والفريدة في تنوعها وثراءها.
كل العوامل دي كانت بدلا من أن تكون في مصلحته ورافعة من شأنه ومستواه المعيشي، كانت على العكس، معرضاه على مدار التاريخ أنه يكون مطمع لكل عابر سبيل، كان طموحه هو استعمارها ونهب واستنزاف أكبر قدر يقدر عليه من ثرواتها.. كل المآسي والمعاناة اللي مر بيها المواطن المصري لآلاف السنين، خلته بعبقرية شديدة وحسن تصرف مبهر، أنه يتأقلم ويتكيف مع واقع القهر والتسلط و فساد السلطة المحتلة المستبدة أيا كان حجم قوتها وجبروتها.
اخترع طرق وحيل عملية للتكافل والتضامن والتعاون بين أفراده. وخلق منظومة اقتصادية خاصة بيه، بعيدا عن الستار العازل اللي صنعه بنفسه بينه وبين الحاكم، سواء غازي أو محتل أو حتى في العصر الحديث ضد الحكومات المحلية.
السنين الطويلة اللي مر بيها المصريين مع السرقة والفساد، أو على الأقل الفشل الإداري والاقتصادي، نشأت عنها خبرات وتجارب وحلول ذكية، للتعايش مع فكرة استحالة الوصول للعدالة الاجتماعية وعدالة توزيع وإدارة الثروة. واستفادة القطاع الأكبر من الشعب من خير بلدهم .. وهما فئة محدودي الدخل.. خبرات تحافظ للناس على الحد الأدنى من القدرة على مواصلة الحياة.
فأبدعوا وابتكروا آليات اقتصادية خاصة بغريزة البقاء وحب الحياة مهما كانت الظروف قاسية وخانقة.. كل ده بات مهدد الايام دي بشكل ملاحظ. والمصريين برغم مرورهم تاريخيا بالعديد من الأزمات والمآسي، إلا أن الأيام دي فيه ثوابت كتير أراها اتلعب فيها واتأثرت.
المصريين اخترعوا مبدأ الشاطرة تغزل برجل حمار.. كدليل على إن اللي حابب يكمل ويعيش، هيتصرف ويبدع ويبتكر..لكن ماذا لو .. الشاطرة مش لاقية الخيط ولا الإبرة عشان تغزل؟ ماذا لو لقيتهم غاليين بشكل جنوني ومقدرتش على تمنهم؟ ماذا لو دبرت بالعافية تمنهم، لكن ملقيتش اللي معاه فلوس اصلا يشتري شغلها؟ المصريين اخترعوا نظرية النُقطة في الأفراح، كمنظومة تكافل اجتماعي غير رسمية، تعين العريس والعروسة على أيامهم الاولى في حياتهم الجديدة. وبتكون دين صارم ومتقيد على العريس، يرده بالتالي للي نقطه في أي مناسبة قادمة.. في دايرة من الدعم والتكافل مبتنتهيش.
لدرجة أننا ابتكرنا كمان مفهوم اسمه جر النُقطة .. اللي هو فرح وهمي واحتفال صاخب على شرف شخص محتاج للدعم في مشروع لحياته المهنية أو أيا كان هدف الليلة.
في النهاية كله بيتراضى وكله جاي وقته في رد الدين حسب اللي دفعه.. الموضوع ده بدأ يقل ويندر بشكل ملحوظ.. المصريين ابتكروا منظومة اقتصادية اسمها الجمعية. في تجمع منظم لمجوعة من الناس، والتزام شهري ميخرش المية، عشان آخر كل شهر يتجمع المبلغ مرة واحدة للشخص اللي عليه الدور، فيعينه في أزمة أو تكاليف مدارس أو عملية أو شراء شئ عيني ناقصه في بيته أو محله وخلافه.
لكن الأزمة الاقتصادية الضاغطة، قللت الفترة الأخيرة من الجمعيات دي .. مصر فيها عشرات الآلاف من الجمعيات الخيرية.. حرفيا عشرات الآلاف.. اللي بيطفو منها على السطح اعداد تعد على أصابع اليد. ومع ظهور ملفات فساد وقضايا غسيل أموال وسرقات للقائمين على بعضها..زائد الاعلانات المبالغ فيها واستقطاب نجوم وفنانين ومشاهير أجرهم عالي للدعوة للتبرع .
اتضربت مصداقية أغلبها في مقتل عند القادرين ، اللي كانوا مواظبين على التبرع للفقراء والمحتاجين من خلالها..وده ألقى بظلاله على ملايين الأسر ، اللي كان بيوصل لها التبرعات دي ، سواء فلوس أو غذاء أو مساعدات مادية وعينية..الأزمة الاقتصادية الفترة دي ظاهرة بشكل جلي ، أنها مأثرة حتى على القادرين ، أو حتى طبقة متوسطي الدخل اللي بتقل يوم بعد يوم . وبتهبط بشكل لا ارادي بقوة الدفع عشان تجاور طبقة محدودي ومعدومي الدخل، فتلقائياً بتلاقي تأثير ده ظاهر والكل حاسس بيه وملاحظه في المناسبات.
زي ظاهرة قلة نسبة ذبح الأضحية في العيد الكبير. واختفاء واضح أو ندرة لموائد الرحمن وكراتين الخير اللي اتعود عليها كثيرين وكانت عادة.. فأصبح اللي كان بيجهز 100 كرتونة، بيكتفي ب 50 . واللي ملتزم بافطار 50 صائم بيكتفي بنصف العدد وهكذا.. حتى صناديق التبرعات في المساجد، اللي كان المواطن الغلبان اصلا، بيتصدق فيها بالقليل على اللي أغلب منه، أصبحت عليها محاذير وتم إلغائها. وبقت محصورة في البنوك، اللي مش كل الناس بتروحها ومش كل الناس بتثق في إيصالها للجهة أو للفئة اللي هي كانت ناوية تتبرع لها .
زائد إن المواطن اللي كان بيحط في الصندوق عشرة ولا عشرين جنيه. بيكسل يروح البنك يقف في طابور أو يقعد يستنى دوره عشان يدفع المبلغ الزهيد ده .. وفي النهاية محدش بيعاني ولا يدفع التمن غير الفقير والمعدم، اللي كل يوم بيتقفل في وشه باب من أبواب التكافل اللي كان فاتحها الشعب لنفسه.
مفيش شك إن التعاون والتضامن والمؤازرة، صفات موجودة وبتجري في دم المصريين وبتشكل بصمة ثابتة في جيناتهم، لكن الخطر كل الخطر هو العبث بالموروث العاطفي والإنساني ده. والضغط على الناس اكتر من كده، لتكريس نظرية يلا نفسي