دولا أندراوس تكتب: حقيبة السفر
حبيبي طويل ..أول مرة وضعته رضيعًا على طاولة الكشف عند طبيب الأسرة قال لي: سيكون طويلاً كأبيه .. ثم نظر نحوي وإبتسم قائلاً وكأمه أيضاً. داعبتني الذكرى بحنينها فأدمعت -رغم كل محاولاتي للتماسك- وأنا أستكمل مسعاي للحاق به. كان قد وصل إلى المبنى المقصود وأمسك بالباب مفتوحًا في انتظار وصولي .. تلك هي عادته مع الأبواب منذ طفولته إذ كان يسارع بفتحها للغرباء العابرين حيثما حللنا. ذكرتني وقفته بحكاية الدولار الذي احتفظ به في حافظتي منذ سنوات بعيدة.. كان عمره وقتها عامين وقد تاه مني في إحدى المحال التجارية وبينما كنت أجري كالمجنونة باحثة عنه في كل اتجاه، وجدته أخيرًا واقفًا عند أحد الأبواب ممسكًا به مفتوحًا لزوجين مسنين كي يعبرا.. وبعد أن ولجا وقفت المرأة تشكره على حسن صنيعه معهما وأخرجت من حافظتها دولارًا ناولته إياه وهي تنظر مليا في عينيه وتقول: إدخر هذا لمصاريف الجامعة.
كم بدا ذلك اليوم بعيدًا وهو يقف الآن على أعتاب المبنى الجامعي حيث سيقيم. آه ما أصعب الفراق، وما أغبانا وأضأل قدرتنا على تقبله واستيعابه، رغم أنه الدرس الأول والأهم الذي لا تلبث الحياة ان تلقننا إياه مرة بعد مرة.. حتى قيل أن على الدنيا أن تهدينا -مع القلب- حقيبة سفر عند الميلاد. فمنذ لحظة الميلاد يأخذ الانسان أولى خطواته نحو الفراق الأخير في طريق محفوف بكل أنواع الانفصال والترك والتخلي.. انفصال بالخروج من الرحم .. انفصال بالفطام.. انفصال بالاستقلال.. انفصال بالسفر .. انفصال بالهٙجْر.. وانفصال بالموت. ونحن في كل علاقة نُودِع بعضاً منا، عند الفراق نوَدِّعه..وكلما كانت العلاقة لصيقة ووطيدة، كان الجزء الذي نفقده كبيراً، ومن هذا نهرم.
استجمعت ما أملك من رباطة جأش وأخذته في حضني للمرة الأخيرة قبل الرحيل.. حاوطته بذراع واحدة وباليد الأخرى دسست الدولار في جيبه تيمنا.. ثم دلفت إلى الخارج وأنا أدفع نفسي دفعًا نحو الباب شاعرة بأنني جسد بلا روح. وبينما كانت السيارة تبتعد بنا، ظل نظري مثبتاً على المبنى الهائل الذي إبتلع ابني ..في القلب غصة وفي العين دمع ولسان حالي لا يكف عن الدعاء والتمني أن يشمله القدير برعايته وحفظه وأن يفتح أمامه كل الأبواب كما كان يفعل هو مع الآخرين.