عندما يهدم الطيشُ بِناء الحُكماء
التاريخ أشبه بمسرحيَّة يتكرر عرضها بأبطالٍ مُختلفين على مسارح مُختلفة على مر الزمان، والنبيه الفطِن من يتزوَّد من عِبَرِه ومواعظه الماضية ليتعامل مع أحداث الحاضِر. قد تصلنا بعض صور التاريخ محكيَّة على صفحات الكتب، بينما يصلنا بعضها على ألسنة بعض المفكرين الذين عاصروها، ومن صور التاريخ التي تستحق التمعن في خطوطِها تلك التي عاصَرها أحد أبرز مُثقفي عالمنا العربي في مُقتبل عُمره، وهو الدكتور/ رياض نعسان آغا.
يسترجع الدكتور رياض - المعروف بكونه أحد وزراء الثقافة السوريين السابقين- مخزون ذاكرته خلال لقاء تلفازي لينقل للمشاهدين ما حدث عندما زار رئيس الجمهورية السورية الرابع عشر "ناظم القدسي" مدينة إدلِب في مطلع ستينيات القرن العشرين، فقرر أهل المدينة انتهاز الفرصة الثمينة، وشكَّلوا وفدًا من النُّخب – بينهم والد الدكتور رياض نعسان آغا- بهدف اللقاء بالرئيس بعد انتهائه من إلقاء خِطابه لتقديم بعض المطالب التي كان من أهمها مرور الخط الواصل بين حلب واللاذقية في إدلب، وإقامة أي مصنع أو مؤسسة إنتاجية لتوفير فرص عمل أكثر والتحسين من مستوى معيشة الناس هناك، لأن ريع محاصيل الزيتون الذي كانت تعتمد عليه تلك المنطقة الزراعية لم يعُد كافيًا باعتبار أشجاره تثمر عاما ولا تثمر في العام التالي.
وإذا بمُفاجأة غير مُتوقعة تنحرف بسير الأحداث، إذ بدأ بعض الشبان برمي الطماطم والبطاطا والحجارة على الرئيس في سلوكٍ غير لائق حضاريًا أوقع أفراد الوفد في حرجٍ شديد، لا سيما وأن الشرطة ألقت القبض على أولئك الشبان، وبعد أن كان الوفد في موقف صار في موقفٍ مُختلف، وانقلب الحال من التأهُّب لطلب خدمات قيِّمة لمدينتهم من الرئيس؛ باتوا يشعرون أمامه بالخجل، ولم يعُد لهم إلا طلبٌ واحد هو الإفراج عن ابنائهم الذين ساء سلوكهم لإدراكهم أنهُ إن غادر المدينة فقد لا يُطلَق سراحهم إلى أجلٍ غير مُسمى، ويتعرضون لتعذيبٍ قد لا تطيقه أنفسهم وأجسادهم، فاستجاب الرئيس القدسي لمطلبهم، وأصدَر أمره بالإفراج عنهم جميعًا.
يُمكن استشفاف العديد من ومضات الحكمة بين أحداث هذه الحكاية الواقعيَّة، لعل أبرزها تسليط الضوء على الخسائر الفادحة التي يتسبب بها سلوكٌ متهور، فيهدم في دقائق ما بناه الحُكماء بعد تفكيرٍ عميق واستعدادٍ وتخطيط استغرق أيامًا وربما أسابيع، ويؤدي إلى تعثر الوصول لأهداف عظيمة قبل إعلان الفوز بقليل.
عندما لا يُنصَتُ إلى صوت الوعي والحكمة وأرباب الخِبرة والعقول الراجحة تعم الفوضى، وسُرعان ما تستحيل الأرباح المتوقعة إلى خسائر قد يستغرق تعويضها زمنًا طويلاً وربما لا تحظى بفُرص جديدة قادرة على ترميم ما فات، لكن أليسَ هذا ما يُعانيه عالمنا اليوم؟ ألَسنا نعيشُ في عالمٍ تُنبئنا أخباره كُل يوم أن أحداثه أشبه بألعوبة بيد مواقف عشوائية مُقابل انزواء العقول الرشيدة والآراء السَّديدة؟