الأب بشاي إلياس …هكذا رأيت الكهنوت في طفولتي
في طفولتي كان بالنسبة لي أبونا بشاي هو الكنيسة وهو الكهنوت وهو الطيبة والهدوء والمحبة والصوت الهادئ والابتسامة الصافية التي تبعث في النفس الطمأنينة! هذا الرجل علمني بحديثه وبصمته وبابتسامته وبتفانيه في خدمة رعيته، لا أعلم كيف كان يجد وقتاً لكل ما يفعله، يوماً ما أغضبت أبي وعلم الأب بشاي فأستأذن أبي ليأخذني معه في سيارته ليتحدث معي! كنت طفلاً لم يكمل عامه العاشر يركب السيارة مع كاهن شيخ ليتحدث معه ويعلمه! شعرت يومها بأن هذا الرجل يعطي كل إنسان قيمة كبيرة حتى لو كان طفلاً لا يعلم يمينه من يساره! حدثني وعلمني وألهمني وها قد مرت عشرات السنوات ولم أنسي هذا اليوم.
بعد رحيل أبي وكنت في سن صغيرة ظل الأب بشاي كما هو، يرعي ويخدم ويعلم، كنت أستشيره كثيراً، كنت أحبه وأحترمه وأراه نموذج للرعاية، لم يكن يتحدث كثيراً ولكن كان يفعل الكثير والكثير! كان يمتلك أصغر سيارة يمكن أن تراها، وعلى صغرها كان يملئ كل جوانبها بكل احتياجات أخوة الرب وكان يمر على كل منزل بنفسه ليعطي شنطة تحتوي على احتياجات أخوة الرب! كان يحمل دفتراً بالأسماء والعناوين ظل معه حتى نياحته!
كان يعرف رعيته فرداً فرداً ويعرف أحوالهم وآلامهم وأحلامهم. يوم نجحت في الثانوية العامة حصلت على مجموع كبير بل وكبير جداً، بالطبع علم أبونا بشاي وبعد عدة أيام من النتيجة ذهب إلى البيت وجلس ثم هم بالخروج فجأة وكأنه تذكر شيئاً فقال لأمي عندي ضيف مهم جداً رجل ذو وضع كبير يزورني هو وأسرته وأريد عمل وليمة عظيمة في حفل يليق به ولا أعلم ما يمكن أن أقدم لهم في هذه الوليمة فماذا ترين في ذلك؟!
قالت له أمي لا أعلم لم يسبق لي أن جهزت مثل هذه الولائم ولكن من الممكن أن نقدم كذا وكذا... وسردت أمي وهي على سجيتها عدة أطباق تليق بأسرة هذا الرجل ذو الأهمية الخارقة وما أن انتهت حتى قال لها وفي رأيك كم تتكلف هذه الوليمة؟! فشرعت أمي في تفنيط أصناف الوليمة صنفاً صنفاً وتعطي سعراً حسب خبرتها وما أنت انتهت حتى قال إذا المبلغ الكلي حوالي كذا (وقد كان مبلغاً كبيراً) ثم أخرج هذا المبلغ وأعطاه لأمي وقال لها الضيف ذو الأهمية الكبيرة وذو الوضع المهم هو جورج أريدك أن تعملي كل ما قلتيه لجورج فأسقط في يد والدتي ولم تعلم ماذا تجيب! لم أكن حاضراً هذا الموقف ولكن كانت هناك أمي وأختي وأخي وهم من قالوا لي ماذا حدث وحينها بكيت من عظمة هذا الرجل الذي عاملني منذ حداثتي بكرامة لم أكن أستحقها ولكنه أب حقيقي كما أراده سيده أن يكون.
يوم نياحته وضعوا جثمانه في الكنيسة، ذهبت إلي الكنيسة ووقفت عند رأسه أنظر إليه وقد مر أمام ناظري شريط حياتي وذكرياتي ومواقفه معي، كانت دموعي تنهمر مثل كل شعب الكنيسة الذي أحبه كما لم يحب كاهناً من قبله ولا من بعده، كل فرد في الكنيسة يحمل لهذا الأب عشرات المواقف والذكريات التي حفرها في قلبه حفراً لا يمحوه الزمن، يومها ظللت واقفاً فترة ليست بالقصيرة أنظر إليه وحين طلب مني أحد الخدام أن أترك مكاني فصرخت في وجهه أتركني فهذه آخر مره أراه. رحل الأب بشاي وترك لنا صورة الكهنوت الحقة، ترك لنا صورة الأب والراعي والمثل والصورة والتي رأيناها فيه جلية لا تقبل المناقشة. هذا مثال منير لهذه الكنيسة العريقة التي كبرنا بين جدرانها وتحت جناحيها وتعلمنا تحت قبابها وأحببناها بكل ما فيها.
تبقي كلمة: هذه كنيسة عريقة حفرت تاريخها في قلب شعبها حفراً يوماً بعد يوم، هذه كنيسة جعلت هذا الشعب الحمال لا يعنيه ترغيباً ولا يخيفه ترهيباً بل ظل هناك قروناً وقرون يتحمل ما لا يتحمله بشر، يدفع الجزية من قوت يومه ولا يلين، يضيقوا عليه الطريق ولا يلين، يعذبوه ولا يلين بل يقتلوه ولا يلين، قروناً وقرون يتحمل كل شيء وما بدل تبديلا!