دردشة…بالعربي الفصيح:
ثقيلة هي ثياب الحملان! (قصة قصيرة) (5)

ملخص ما سبق: قام الباشمهندس المقاول، صاحب الشركة، بإختيار واحد من مراقبي عماله ليحل محله خلال اسبوع سفره لأحد مصانع الخارج؛ وبالرغم من أن أبو صلاح هو أصغرهم سناً وأقلهم خبرة، إلا أنه اختير لهذا المنصب ودرب إداريا على يد الباشمهندس شخصياً؛ لم يكن ابو صلاح يثق بزملائه المراقبين، لكنه فوجئ بان الجميع يعامله بلطف واحترام، فشعر بالراحة أخيراً وتمنى في نهاية أسبوع إدارته أن يطول، وبالصدفة، مد الباشمهندس بالفعل فترة غيابه ثلاثة أسابيع إضافية.
حلقة ٥
لا يُحصد القمحٌ من الزؤانٍ!
ما بال السماء تستجيب لطلباتي سريعاً وكأنها ليلة القدر؟! كنت لا أحلم بأن أكون مراقباً، وقد أصبحت! طلبت معجزة، وها أنا أنوب عن صاحب الشركة ذات نفسه! تمنيت أن تطول مدة إدارتي، وإذا بي أحظى بثلاثة أسابيع إضافية! كأن الدنيا قد كفّت عن العبوس في وجهي…اللهم لا شكوى…فهذا لطيف جداً!
عليّ أن أستثمر هذه المدة الإضافية على نحو صحيح لأكسب رضا وثقة الباشمهندس! أسبوع واحد فقط يعني المحافظة على استتباب سير العمل، لكن شهر كامل معناه مسؤوليات أكثر، وتفاعل أغزر وعلاقات أوثق! يجب التركيز على سلامة السفينة، أجل، لكن وجب أيضاً الاعتناء بركاب السفينة وطاقمها!
وإن أردت التعضيد من الناس أمام الباشمهندس يتحتم عليَّ تخطي مخاوفي، والاستيقاظ من ظنون أشباح الكراهية…وأعمل جاهداً كي أكون محبوباً…مثل بدوي، ونزيه! هكذا أدخل في دائرة المقربين!
***
تظاهرت بأني استشير نزيه وبدوي كلما سنحت لي الفرصة، وهما، في الحقيقة، لم يبخلا على بالمشورة في مواقف متعددة، وأصبحا من المقربين إليّ جداً! كما دربت نفسي على تحسين أسلوب تعاملي مع العمال بشكل عام، لكي يلتفوا حولي ويألفونني أكثر! يا للعجب…لا شيء بلا ثمن….حتى المحبة! يبدو أن من طلب العلا، كان لا يحتاج لـ سهر الليالي كما باتوا يزعمون…كان عليه فقط مغازلة الحُكّام! رشة خميرٍ بسيطة يختمر بها العجين كله!
***
قد ترددت كثيراً قبل اتخاذي هذا القرار، لكن من ضمن صلاحياتي دعوة موظفي الشركة وعملائها على العشاء من حين لآخر، مادمت الميزانية تسمح!
اتكأ الجميع في أرجاء المطعم…مطعم فاخر من مطاعم وسط البلد الشهيرة؛ وبالرغم من تعثر البعض عن الحضور، كان التجمع حافلاً! ارتسمت البسمة على وجوه الموجودين؛ جلس العمال على ٤ طاولات متجاورة، والمراقبون كلهم على طاولة واحدة مع السكرتارية، أما العملاء فعلى طاولة أخرى!
كان مقعدي على طاولة المراقبين، لكني ظللت أتنقل بين الطاولات المختلفة قبل وصول الطعام، لكي أتواصل اجتماعياً مع الجميع! ولما فرغ النُدُل من إحضار الطلبات على الطاولات المختلفة، عدت إلى طاولتي؛ وقبل أن يبدأ المدعوون في الأكل، وقف بدوي، حسب الاتفاق، ليفتتح العشاء بكلمة رقيقة، فقال:
- بسم الشركة، والباشمهندس، وطبعاً أخونا أبو صلاح، بنرحب بكل واحد منكم…بنرحب بعملائنا الكرام، وبعمالنا المتميزين، ومراقبين عمالنا الأفاضل، والسكرتارية المحترمة في العشا الخاص دا…اللي على شرف الشركة، تقديراً منا لمجهوداتكم وتعاونكم وتفاهمكم معانا خلال الفترة اللي فاتت ونتمنى اننا دايماً نكون عند حسن ظنكم ونستمر في الشغل مع بعض على الدوام في المستقبل…مش هاطول عليكم…بسم ابو صلاح والباشمهندس أشكركم جميعاً على الحضور…اتفضلوا كلوا بالهنا و الشفا…
جلس بعدها بدوي بهدوء بجواري، بينما ضج المكان بالتصفيق الحار الذي ما لبث أن خَفُت تدريجياً!
ملت على بدوي وقتها مربتاً على كتفه بإبتسامة:
- يسلم فمك…ايه الجمال دا!
فابتسم بوقار قائلاً:
- دا من بعض ماعندكم يا ابو صلاح!
وبعد أن انفض العشاء انصرف الجميع سعداء إلى منازلهم!
***
ما أجمل الأيام بلا ضغوط و غموض، رغم أنها تمر بسرعة البرق؛ لكنها لم تكن هباءً تلك المرة!…أثق أني قد تركت بصمة مؤثرة تشفع لي عند الباشمهندس! سيصل في الغد ليستلم وديعته، وبالقطع سيتقصى عن إدارتي! لكن…ماذا إذا كان المراقبون يدبرون لي فخاً حين يصل؟!…هل عدت أدراجك يا أبو صلاح أسيراً لتلك المخاوف المؤرقة! لن يحدث!! وإن فرضنا أن كذب بعضهم، لن يكذب الكل! وإن كذب الجميع، فالعمال ستشهد لي! فلما القلق إذن؟! ثم أني أثق في مصداقيتهم! كل شيء سيكون على ما يرام ولا داعي إلى التوتر!
***
استلقيت باسترخاء على أريكة منزلي أتابع مسلسل الساعة الثامنة، كما تعودت كل ليلة! وإذ بزوجتي تهرول تجاهي وهي تنادي:
- حمدي…يا حمدي!!!
انزعجت جداً لمقطاعتها لخلوتي المسائية فصحت بها:
- خير فيه ايه؟! القيامة قامت؟!
إرتعشت وهي تقول خانعة:
- تليفون علشانك…يا أبو صلاح!!
- مين؟!
-ما أعرفش…!
فخطفت محمولي من يدها بضيق خلقٍ:
- غوري…هو انتِ من امتى بتعرفي حاجة!!
فانصرفت غاضبة، لكن بخضوع، فأجبت الطالب:
- ألو…أيوة مين معايا؟ أهلاً عم نزيه!! أخبارك ايه؟ ان شالله تكون بخير!!!
لكني سرعان ما اعتدلت في جلستي وقلت:
-…إيه؟…حصل امتى الكلام دا؟!…قناة ايه؟!…طب ثانية واحدة…
مسكت ريموت الكنترول بتوتر وفتحت القناة الاولى على نشرة الأخبار وإذ بالمذيعة تقول:
" …و لم تدلِ بعد التحقيقات وعمليات البحث بأية معلومات عن طائرة الخطوط الجوية اليابانية المفقودة المتجهة إلى مصر! لكن لا يزال البحث مستمراً! "
عدت للمراقب نزيه مرة أخرى مستفسراً:
- انت متأكد يا نزيه ان هي دي طيارة الباشمهندس؟!
يتبع في الحلقة التالية من العدد القادم…