زينب علي البحراني تكتب: النقاب.. وخرافة الحرية الشخصية
لا شك أن الاختلاف بين ثقافات البشر وأديانهم ومذاهبهم وتوجهاتهم الفكرية والعاطفية والسلوكية ضرورة من ضرورات حماية التوازن الإنساني على الأرض، لكن ذاك الاختلاف الضروري الذي لا بد من تعايُش مُتناقضاته تحت مظلة السلام يغدو مهددًا بالتدمير والزوال إذا فتحنا أبواب السماح لبعض "السلوكيات التخريبية" للتسلل إلى المجتمعات ونخر نسيجها الإنساني بحجة "الحُرية الشخصية".. إذ أننا لو تغاضينا عن سلوك السارق بحجة الحرية الشخصية، وسلوك القاتل بحجة الحرية الشخصية، وسلوك مُعذب الحيوانات بحُجة الحرية الشخصية، وسلوك مُدمن المخدرات بحُجة الحرية الشخصية، وسلوك الكاذب بحجة الحرية الشخصية، وسلوك الباصق في كل مكان بحُجة الحرية الشخصية، فلن تنتهي سلسة الإجرام والفساد والتخريب وراء حجة "الحرية الشخصية"!
من أخطر المشكلات المنبثقة عن انخفاض الوعي في بلداننا العربية إيجاد أعذار لكثير من السلوكيات الضارة بالفرد والمجتمع في سبيل اعتبارها "حرية شخصية" مقابل ابتداع كثير من التهم ضد سلوكيات أخرى مناقضة قد تكون أقل ضررًا بحياة الفرد والمجتمع، والادعاء بعدم إمكانية اعتبارها "حُرية شخصية"، ومن أبرز الأمثلة على تلك النظرة المزدوجة تلك الادعاءات التي تُدافع عن انتشار النقاب في تلك المجتمعات تحت ستار "الحُرية الشخصية".
لم يكُن ارتداء النقاب يومًا في عصرنا الحاضر "حُرية شخصية"؛ فالحُرية الشخصية الحقيقية تتطلب دائما قدرة حُرة على الاختيار دون "مؤثر خارجي"، بينما لا ترتدي المرأة النقاب إلا لإحدى خمسة أسباب:
1- قانون رسمي يُجبر المرأة على ارتدائه ويُعرّض من ترفضه لعقوبات مهينة مثل القانون الذي كان يحكم النساء الأفغانيات تحت سُلطة حركة "طالبان".
2- قانون مُجتمعي سائد ترتدي بسببه النساء النقاب كتحصيل حاصل من باب سيادة السلوك الجمعي، ما يجعل من النساء اللواتي لا يحترمن هذا التقليد ولا يُطقنه ولا يؤمن به مضطرات لارتدائه خوفا من بطش أهلهن أو تعرضهن لأشكال مختلفة من نماذج الأذى والتحقير الحسي والمعنوي الذي تصبّه عليها الأكثرية المُجتمعية غير الواعية على الأقليّة التي لا تسلك مسلكها.
3- تعرّض المرأة لقهر بعض الذكور من أفراد أسرتها المتشددين الذين يجبرونها على ارتدائه، أو إلى شكل من أشكال "الابتزاز العاطفي" الذي يفرضه بعض الأزواج ذوي الميول النفسية غير السوية على زوجاتهم تحت حجة ما يسمونه "الغيرة".
4- تعرّض المرأة لشكل من أشكال "غسل الدماغ" الجمعي أو الفردي الذي يصوّر لها أن ارتداء النقاب فرض شرعي ضروري، وإخضاع عواطفها بالترهيب من سخط الخالق وجهنم الآخرة إذا رفضت ارتدائه، والترغيب الوهمي الذي يصوره رمزا من رموز العفة وصدق الإيمان ووسيلة من وسائل درء الرذيلة والفساد عن نفسها وعن غيرها.
5- تعرّض المرأة لصدمة نفسية مُفاجئة تطفئ ألوان الحياة ومذاقها في نفسها وتقودها نحو عزلة روحية تؤدي إلى تبنيها النقاب كشكل من أشكال العزلة الجسدية.
في كل هذه الحالات لا تملك المرأة حقا حُرية الاختيار دون مؤثر خارجي يعبث بمعتقداتها الداخلية الحقيقية ورغبتها الصادقة في فعل الشيء أو عدم فعله، ولا يسعنا تجاهل النوايا الخبيثة للجهات التي تتعمد التأثير على معتقدات المرأة وبرمجة أسلوب تفكيرها ومن ثم التحكم بتصرفاتها للسيطرة على شريحة لا يستهان بدورها في المجتمع، ومن هنا ينتفي مفهوم ارتباط "الحرية الشخصية" بظاهرة انتشار النقاب.
لنفترض جدلاً أن ألف أنثى وُلدن في جزيرة معزولة عن المؤثرات السالف ذكرها دون أن تكون معزولة عن كافة تفاصيل الحياة الأخرى التي تعيشها أي أنثى في بلدان الشرق الأوسط، ومرّت عليهن عشرات الأعوام في تلك الجزيرة دون أن يرين النقاب أو يسمعن باسمه؛ كم واحدة منهن ستخطر لها فكرة ارتداء لباس يحتاج إلى عوامل مؤثرة واضحة ودوافع نفسية معقدة لارتدائه كهذا مقارنة بمئات اللواتي سيخترن ارتداء ملابسهن العادية التي تقي أجسادهن من مشكلات تقلبات الطقس وتحميها من الآفات والجراثيم، وبعشرات اللواتي ربما يخترن تغطية رؤوسهن بأي شكل كان اتقاء البرد والحر أو بسبب ظروف صحية، وبعدد نادر جدًا ممن يخترن التعري أو ما يشبه التعري؟ ربما لا واحدة؛ لأن النقاب لباس آيديولوجي معقد يحتاج إلى غرسه في فكر المرأة بطريقة متعمدة مثلما يحتاج بيئة وظروف تدفعها لتطبيق تلك الفكرة. وقد يعترض أحدهم: "ما شأنكم بمرتديات النقاب مادام الأمر يخصهن وحدهن؟!".. وهنا نجيب: شأننا أن الأمر لا يخصهن وحدهن؛ بل يخص المجتمعات التي يعشن فيها ويتفاعلن معها وكل شخص يتعاملن معه وهن يرتدينه، لأنه رمز من رموز ثقافة الخوف والتخفي وانعدام الثقة بالنفس، وباب ييسر الطريق نحو الإرهاب والجريمة بإخفاء هوية الشخص تحت قناع، ويساهم في نشر الرذائل تحت ستار الفضيلة.