عبد المسيح يوسف يكتب: حكايات الحرمان والفل (4): من اليتم للبيت الكبير
ويستقر الحال بيوسف، عاملا في مخازن مرفق مياه القاهرة الكبري. وتبدأ الدنيا تضحك له هو وزوجته الجميلة فرحة. وتستمر فرحة في عملها بالخياطة بجانب يوسف، لتساعده في تحمل تكاليف الحياة.
وبعد انجاب كريمة وماري، يشتاق يوسف لخلفة ولد، ليسنده في مواجهة مصاعب الحياة، خاصة وأنه أنجب 3 بنات حتى الآن. وتمر الأيام والسنوات، وتنجب فرحة أخيرا، ولدا جميلا، ولأن ملاك أخيها الأكبر والحنين عليها منذ سنوات يتمها، فقد كان ملاك بالنسبة لفرحة كل شئ أبوها وأخيها الأكبر. فتطلب منه أن يسمي ابنها، باسم تتوسم فيه الخير، ليكون ابنها مستقبله له نصيب من هذا الاسم.
ويختار ملاك اسم محامي شهير في الجيزة، كان اسمه، يوحنا، ليلقب به ابنها، حتي يكون له نصيب من شخصيه هذا المحامي. ويفرح الجميع بالصبي، الذي ولد في شهر مارس، في الساعة السادسة من صباح أحد أيام الجمعة الممطرة من شهر مارس.
وبعد يوحنا البكر ليوسف، تنجب فرحة بنتين آخريين هما أمل ونادية. ويصبح لدى يوسف 4 بنات وولد. ويكون هذا الولد هو أمله في الحياة، وكان منذ صغره يلقبه بالدكتور، حتى أنه لم يكن يتجاوز الخمس سنوات. ويستمر في التحدث معه عبر التليفون كلعبة كما لو كان ابنه دكتور في أمريكا ويوسف في مصر يطمئن علي ابنه.
وتمر السنوات، ويكون يوحنا هو الابن المفضل لأمه فرحة، رغم حنيتها الكبيرة علي كل بناتها، إلا أن ولدها الوحيد كانت له محبة خاصة، كان أحيانا أبيه يوسف يتساءل حول كل هذا الحب لفرحة تجاه يوحنا الابن البكر.
ومع مرور السنوات، تقع حادثة مفجعة تروح ضحيتها البنت الصغري نادية، وتموت، وتموت الفرحة التي بدأت تتسرب إلى بيت يوسف، في حادث سيارة خلال يوم عيد الميلاد، وهي في السادسة من عمرها.
ويهيمن الحزن من جديد علي بيت يوسف وفرحة وأولادهم. ويستمر لبس السواد لفترة طويلة من الوقت. وينمو جميع الأطفال في ظل ضيق الحال، وقيام الأم فرحة بخياطة كل ملابسهم، رغم كل أمنيات الأطفال كريمة وماري وأمل ويوحنا بأن يرتدون ملايس جاهزة من محلات عمر أفندي أو صيدناوي، لكن ضيق الحال، يجعل فرحة المدبرة العاقلة تفضل تفصيل ملابس أولادها بدلا من شرائها جاهزة.
ويسعي يوسف لتحسين وضعه، بجانب عمله في مرفق المياه، فيتذكر أنه يجيد القيادة، ويمكنه شراء سيارة ميكروباص لزيادة الدخل بجانب عمله في مرفق المياه، وعمل زوجته بالخياطة. ويذهب يوسف لعمل رخصة القيادة، ويكتشف أنه لا يستطيع الحصول علي رخصة أجرة، لأنه لديه مشكلة بالنظر في عينه اليمني، إذ لا يري بها جيدا، علي الرغم من أن عينه اليسري تري بمعدل 6/6.
وتضيق الدنيا في عيون يوسف من جديد، فهو يري فرحة التي بدأت تعاني وهي في عز شبابها، من مرض الروماتيزم بسبب جلوسها بالساعات علي ماكينة الخياطة، ولا تقصر معه، ولهذا كان يحبها حبا عظيما، خاصة وأنه كان دائما ما يقول له يا فرحة إحنا الاثنين يتمي، وملناش غير بعض، رغم بعض المشاكل التي كانت تسيطر علي البيت بسبب ضيق الحال وقلة المال.
وينجح يوسف في الحصول علي رخصة قيادة خاصة، لا تسمح له بقيادة سيارات الأجرة. ويعرف يوسف أن هناك وظائف داخلية في مرفق المياه، يطلبون لها فنيين ميكانيكا، ويقدم يوسف وينجح فيها، بسبب خبرته في العمل في مجال السيارات.
ويتحول من عامل مخازن، إلى ميكانيكي طلمبات ديزل، ويزيد راتبه بعض الشيء. ويكن مصاريف بيته وأولاده تزيد. وعلي الرغم من نجاح فرحة في تدبير أمور البيت، وفق المتاح من مصاريف، لكنه يشعر دائما بالضيق، بسبب ظروف عينيه.
ومع مرور الوقت ترزق فرحة، بصبي جديد، جميل المنظر، وذكي للغاية، سيكون هذا الصبي هو قرة عين والده يوسف. ويسمي يوسف هذا الولد علي مرقس. ويصبح مرقس هو مصدر فرحة وسعادة البيت. وبدلا من أن يكون لدي يوسف صبي واحد أصبح لديه ولدين.
ويمضي يوسف الكثير من الوقت مع مرقس، بعد أن ينهي عمله في مرفق المياه، وعمله كذلك علي عربية الميكروباص القديمة التي اشتراها ليزيد بعض الشئ دخله ودخل أسرته.
وكانت من عادات يوسف، الذي تربي مع الإرساليات التبشيرية أنه يجمع أولاده وبناته ويحدثهم عن المسيحية، وأن المسيح جاء لكل الناس ولكل الطوائف، ليحببهم في كل المسيحيين وكل الإنسانية، بعيدا عن أى تمييز أو اضطهاد. وكانت من عادته رغم تركه للمدرسة مبكرا أن يقرأ في الإنجيل عدة مرات أسبوعيا قبل الصلاة الجماعية مع أفراد بيته، ليحببهم في كلمة الله.
وكانت علاقة يوسف وفرحة بالجيران طيبة للغاية، وهم في غالبيتهم مسلمين. لكن لم تكن في سنوات السبعينيات والثمانينات من القرن الماضي قد ظهرت بعد بوادر الكراهية والفتنة الطائفية. وكانت الجيران تستلف من بعضها العيش والملح وحتى اللحم، في ظروف الاحتياج أو استقبال ضيوف مفاجئين.
وكان يوسف يتحدث كثيرا مع أولاده وبناته بأن التعليم هو السبيل الوحيد لتطورهم ورقيهم في المجتمع، وتبوأهم لأفضل المناصب، لأنهم فقراء وليس لهم معين غير الله، وأنه رغم ضيق الحال، علي استعداد ليقدم لكل ولد وبنت من أبنائه عينه من أجل أن يستكمل بتفوق نجاحه وتعليمه في أعلى الكليات.
ويستمر عمل يوسف في مرفق المياه دون مشاكل، لكن ضيق كله يأتي من عمله علي الميكروباس ففي نهاية كل يوم يجني فيه عدد من الجنيهات، حيث كانت الأجرة في حدود 5 قروش، وكان يعمل علي خط المنيب شار ع المحطة، يفاجئ بأحد أمناء الشرطة، الذين يطلبون رخصته، ولأنه لا يمتلك رخصة أجرة، كانت أمين الشرطة الأمين يكتب له مخالف بمبلغ كبير، أما أمين الشرطة الملتوي فكان يأخذ منه تقريبا اليومية كاملة، ليتركه دون أن يعطيه مخالفة.
وشعر يوسف الضيق وأنه يعمل للغير، وأن كل ما يجنيه من أجل أسرته علي الميكروباص كان يذهب إلى أمناء الشرطة بسبب عجزه عن الحصول علي رخصة قيادة أجرة.
وتمر السنوات، ويكبر الأبناء والبنات، ويتقدمون في مراحل التعليم المختلفة، ومنهم من يتفوق، ومنهم من يسير ببطئ. فتدخل كريمة كلية التجارة، وتذهب ماري وأمل إلى دبلوم التجارة، ويذهب يوحنا إلى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ويتفوق مرقس ليذهب لكلية الآداب.
وكانت سنوات الثانوية العامة، صعبة للغاية علي بيت يوسف وفرحة وأولادهما، حيث معسكرات المذاكرة، بسبب ضيق الحال، وعدم القدرة علي أخذ دروس خصوصية، وضغوط الأبناء علي الوالدين لأخذ دروس خصوصية مثل بقية أقاربهم وزملائهم.
وكانت فرحة تقول لهم أن مجموعات التقوية في الكنيسة أفضل من الدرس الخصوصي أن المدرس يعطيها بضمير لأنه يتبرع بها لله، وليس من أجل الحصول علي المال، بجانب أن ظروفنا المالية لا تسمح باعطاء دروس خصوصية، وهذا ليس بخلا، ولكنه بسبب ضيق اليد.
وبالفعل تنجح الدروس الخاصة بمجموعات التقوية في الكنيسة في زيادة مستوى التحصيل الدراسي خاصة لكريمة ويوحنا ومرقس الذين دخلوا كلهم كليات جامعة القاهرة ومن بينها إحدى كليات القمة.
ويتقدم العمر بيوسف وفرحة، وبعد أن يدخل بعض أبناؤهم الجامعة، تحمل فرحة في صبي، جديد ويسمونه جون، ويكون الفارق بينه وبين أخوته ما بين 12 و18 عاما. ويكون صبي أبيض اللون وأخضر العينين، حاملا لجينات عيون جده نظير الزرقاء. وتزيد فرحة يوسف بالولد الجديد. ويبدأ يوسف وفرحة في الاستثمار في أولادهم، لتغيير مستقبل حياتهم للأفضل... يتبع
عبد المسيح يوسف - مونتريال