خالد منتصر يكتب: الإنسان حيوان حكاء
يؤكد المؤرخ يوفال نوح هراري على أننا ارتقينا من مرتبة الحيوان الى الانسان العاقل بقدرتنا على الحكي، تميزنا من خلال هذا الحكي وارتقينا وصنعنا الحضارة، قادنا خيالنا وقدرتنا على نسج الحكايات التي معظمها وهمية، لاختراع خرافات مشتركة لنستطيع تكوين جماعات بالملايين، لم يشطح هراري في هذا التحليل، فبالفعل لا يستطيع القرد قيادة أكثر من خمسين أو مائة من قطيع أو قبيلة القرود، لكن لكي تنشئ قرية أو تكون مدينة أو تبني خلافة لابد من حكايات وأساطير تجمع تحت سقفها الملايين، لابد من بعض النميمة وبعض الكذب لكي تصنع الحضارات!!
من الممكن أن يصدمك هذا الاستنتاج، لكن لو فكرت فيه قليلاً ستجد أن اللغة عندنا فيها بهارات الكذب، أما لغة الأصوات والاشارات عند الحيوان فهي لتوصيل رسالة سريعة صادقة وواقعية، القرد يصرخ النمر قادم ليلتهمنا بجانب البحيرة، أما الانسان فقد زاد وجوّد وأضاف من خياله حكاية أخرى وهي أن النمر أو الذئب له بركات ومعجزات فلنعبده إذن ولنقدم له القرابين!!
تتراكم الحكايات والأساطير وتجند أتباعاً ومريدين مقتنعين ومصدقين بل مستعدين للموت في سبيل الفكرة الأسطورية أو الحكاية الجمعية أو الخرافة المشتركة، لا يوجد قرد مستعد للموت في سبيل تقديس النمر، هو يهرب منه فقط لأنه يعرف أنه مفترس، أما الانسان فهو الوحيد الذي استطاع إقناع جماعته بأن الموت في سبيل رضاء النمر عنهم هو الغاية والهدف، وأن هناك مكافأة مغرية من النمر المفترس للعشيرة التي صنعت الأسطورة وصدقتها، التطور قام بسمكرة البني ادمين وإجراء تعديلات جوهرية نتاج طفرات جينية، فظهرت العيون في مقدمة وجه الانسان بديلاً عن جوانب الوجه في الحيوان، واستطاع الانسان مراقبة عالم السافانا بعين رادارية ثلاثية الأبعاد، ترك الانسان المشي على أربع وانتصب واقفاً وتحررت يداه فاستطاع اكتشاف النار وصناعة الأدوات من الحجر، واستطاع بهذه الوقفة أن يستكشف ما هو أمامه، استطاع من خلال النار أن يطبخ وأن يخفض عدد ساعات المضغ والهضم، لتذهب الطاقة الى الدماغ ويكبر حجم المخ وتتكون قشرة دماغية مكثفة وفص أمامي مدرك ومبدع.
كل هذا جعلنا سادة العالم، لكنه في نفس الوقت جعلنا أكثر كائنات الدنيا كذباً وخداعاً، تناقلنا الحكايات في ليالي السمر، لكنها تجاوزت مجرد الحكايات لتصبح مقدسات وفرمانات وسياسات وقوانين وأساطير وخرافات، تجاوزت قعدات التدفئة حول النار إلى أوهام تشعل النار والحروب وتأكل الأخضر واليابس، فهل يلجأ الانسان في تلك الأيام إلى تقويض كل تلك الأوهام والعيش كفرد في لحظة صدق مع النفس وتحرر من أغلال المزيد من الخدع؟ أم سيظل أسيراً في سجن الأكاذيب التي تستمد قوتها من أننا قد اتفقنا على عدم المساس بها؟!