عبد المسيح يوسف يكتب: الهروب الكبير في روسيا... وتهديدات بوتين... وتأهب الأسواق في الغرب
كلنا يتذكر الفيلم الرائع الهروب الكبير عن الحرب العالمية الثانية ومحاولة عدد من أسرى جيوش الحلفاء في سجون النازي هتلر الهروب من سجنهم؟ هذا ما يمكن تصوره منذ أن أعلن بوتين التعبئة الجزئية القومية لأكثر من 300 ألف روسي، حيث بدأت موجة من الهروب والخروج الكبير للروس من البلاد نحو الغرب، خاصة وأن هذه التعبئة لم تقف عند هذا الحد، بل تجاوزتها بإعلان بوتين بأنه سيستخدم أنواع غير تقليدية في الحرب الروسية الأوكرانية، للرد على تدفقات الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا؟ وهذا ما فسره الرئيس الأمريكي جو بايدن في اجتماعات الأمم المتحدة بأنه تلويح باستخدام روسيا للسلاح النووي في الحرب؟
لم يتوقف الأمر عن حد حرب التصريحات بين روسيا وأمريكا، ولكن يبدو أن حالة التعبئة الجزئية التي أعلنتها موسكو، اشعلت الأسواق، ودواليب القرار السياسي في العالم الغربي وكذلك الأسواق العالمية للطاقة. مع الوقت تكتشف روسيا أن الحروب لا مكسب ولا خسارة فيها، وإنما هي استنزاف للموارد والنفوس، التي تعد لا قيمة لها في بعض الدول للأسف.
بايدن هذا الرئيس الأمريكي، المنفصل عن العالم وحقائقه، بسبب شيخوخته المدمرة، والتي تكشف مدى إفلاس أكبر دولة في العالم ومؤسساتها الحزبية والسياسية لإفراخ قيادة سياسية شابة وناضجة قادرة على إدارة مؤسسات الدولة الأمريكية، يصرخ في كل مكان أن بوتين يهدد العالم الغربي بالضربة النووية.
يبدو أننا وقعنا في مسرحة هزلية، لم تعد تثير الضحك. بوتين ذات الزعيم القوي، الذي يتمتع بصورة الرجل الرزين، القوي، السياسي المحنط، القادر على الفوز في كل معاركه. لم يستطع النجاح حتى الآن في أوكرانيا، التي يقف العالم الغرب خلفها مستترا، خائفا من أي مواجهة مباشرة مع روسيا وإلا قامت الحرب، المدمرة للعالم الشرقي والعربي على السواء.
كانت الغالبية تتوقع أن انتصار روسيا في أوكرانيا، حقيقة لا مفر منها. ولكن كما يبدو من معطيات أرض الميدان السياسي والعسكري، فإن هذا لم يتحقق، وأن روسيا عليها أن تعيد حساباتها العسكرية. كما أن توقعات وتصريحات الغرب الجوفاء بأن الاقتصاد الروسي سينهار انهيارا عظيما، لم يتحقق.
يبدو وأن العالم وقع في فخ فريقين، كلاهما يحترف تحوير الحقائق، وتوظيفها بما يؤثر في نفسية شعوب ومريدي كل منهما، وفي حرب نفسية، يتضرر منها المواطنين الأبرياء في العالم.
هذه الحرب أدت إلى موجة بشعة من التضخم، يعاني منها أشد المعاناة مواطني الدول الغربية، وفي مقدمتها الدول الصناعية، ومنها أمريكا وكندا والدول الأوروبية الغربية. الأسعار في تزايد مستمر، والمرتبات ساكنة لا تتحرك شأن بقية دول العالم، ولأنه موسم الانتخابات في بعض الدول الغربية، تحاول الأحزاب خاصة تلك التي في السلطة أن تقدم شيكات مالية للمواطنين في محاولة مقننة لرشوتها سياسيا. ولكن هذه الشيكات غير قادرة على مواجهة موجة الغلاء والتضخم، الذي ينخر في جدران مرتبات المواطنين في الغرب والشرق، الشمال والجنوب.
يبدو أن العالم يدار بواسطة مجموعة من النخب السياسية، التي شاخت في الشرق والغرب، ولم تعد ترى إلا الحروب والدمار، ولا يسعي إي منها إلى خير وسلام البشرية.
البداية كانت من الغرب بدفع أوكرانيا للاصطدام مع روسيا، مع طلب الانضمام لحلف الناتو، الذي تعتبره موسكو تهديدا لأمنها القومي. قامت روسيا بغزو أوكرانيا، وقفت أمريكا عاجزة في بداية الأمر، إلا تصرفها من خلال تقديم أحدث المعدات العسكرية لدعم الجيش الأوكرانية. توقع الكثيرون أن الحرب لن تستمر أكثر من أسابيع وتحسم الأمور لمصلحة موسكو. ولكنها كانت نظرة مبسطة وسطحية.
الحرب مستمرة، والتضخم مستمر، وارتفاع الأسعار لن يتوقف في الأسواق العالمية للطاقة والمواد الغذائية. لا مفر من هذا المصير إلا بالسلام، ولكن لا موسكو ولا واشنطن مستعدتان لتقديم أي تنازلات حتى لو كان هذا على حساب المواطن البسيط في أوكرانيا وروسيا وأمريكا ذاتها، التي يأن المواطن الأمريكي فيها شأن المواطن الكندي هنا من موجة التضخم البشعة، التي هزت كيان المجتمع الطبقة المتوسطة.
هل من عاقل رشيد يساعد على تقريب المواقف والتوصل إلى نتيجة إيجابية، أم أن الأحداث ستزداد اشتعالا، حتى يدرك كل الأطراف مدى الأخطار المحيطة بهم بالبشرية، كما حدث في الحروب العالمية، أو الإقليمية في أفغانستان والعراق، أو بأن تأتي الانتخابات بحزب مغاير في أهدافه وخططه ولا يريد هذه الحزب؟
لا يملك الأبرياء من المواطنين القرار، إلا أمام الصندوق الانتخابي في الدول الغربية خاصة، وأن هناك انتخابات في عدد من الدول الغربية. ولكن إذا غير الصندوق الانتخابي النخب في الغرب، ماذا عن روسيا، واستمرار بوتين؟ والغرب طبعا لن يرضى بهزيمة عسكرية أو معنوية أمام موسكو عامة وبوتين خاصة؟
الأحداث ربما تكون أكثر سخونة الفترة القادمة ولا نملك إلا المتابعة عن كثب، على أمل أن تحدث تطورات إيجابية تقود إلى مزيد من التفاهمات، والتقريب في المواقف ووجهات النظر، حتى يلوح في الأفق نهاية لنفق هذه الحرب، المدمرة للبشرية والأسواق والقدرات الشرائية والاقتصادية للدول والحكومات والأفراد العاديين.
العالم يتابع عن كثب تطورات الأمور، وعلى الرغم من صعوبة وقوع مواجهة مباشرة حاليا عسكريا بين روسيا والصين من ناحية والغرب من ناحية ثانية، إلا أنه من المستبعد هدوء الأحوال في ظل اشتعال حرب التصريحات النفسية بين الجانبين. ضوء النور الوحيد يتمثل في حدوث تغيير جذري في السلطة في إحدى الدول الأصيلة في هذا الصراع، وتحديدا ثلاث دول هي روسيا وأوكرانيا وأمريكا، فتغيير النخبة الحاكمة أو توجهاتها الأيديولوجية هو الأمل الوحيد على المدى القريب لكي تهدأ الأحوال.
ومن المستبعد اختفاء بوتين من السلطة في موسكو، كما أن زيلنسكي من القوي استمراره خاصة وأنه منذ الحرب وهو يحافظ على مركز بصورة أو أخري. يبقي البديل الوحيد أن ينجح الناخب الأمريكي في احداث تغيير حقيقي في الإدارة الأمريكية بأن يأتي بالجمهوريين سواء كان ترامب أو أي مرشح جمهوري آخر، خاصة وأن فترة الديمقراطية هذه تحت إدارة بايدن تعد واحدة من أسوء فترات الولايات المتحدة على المستوى العالمي، حيث انعكست شيخوخة الإدارة الأمريكية، على دور ومركز الولايات المتحدة الأمريكية عالميا، خاصة وأنه من المستبعد أن يترشح بايدن في الانتخابات الرئيسية القادمة، بعد أن احيطت الانتخابات السابقة بكم غير مسبوق في تاريخ الديمقراطيات الغربية عامة والأمريكية خاصة باتهامات بالفساد والتزوير، لدرجة هددت بتحليلات دراسة احتمالات نشوب حرب أهلية في الولايات المتحدة، بسبب "اللوبيهات" الخفية التي لعبت دورا سافرا ومفضوحا ومنها وسائل الإعلام الداعمة بصورة سافرة للديمقراطيين، مما طرح تساؤلات حول القوى الخفية واللوبيهات "جماعات الضغط" غير المعلنة التي وجهت نتيجة الانتخابات الأمريكية لمصلحة الديمقراطيين على حساب الجمهوريين.
لا نملك إلا الانتظار ومتابعة تطورات الأحداث، خاصة وأن سعير التضخم وارتفاع الأسعار وثبات المرتبات في أمريكا وكندا والغرب يجب أن يكون له تأثيرات على توجهات تصويت الناخبين وإلا فعلى الباحثين الاستعداد لدراسة مدى رشادة الناخبين في المجتمعات الغربية، والدافع لتحديد توجهات تصويتهم في الانتخابات.