زينب علي البحراني تكتب: التشدد الديني والاضطرابات النفسية
هل وُجد الدين في هذا الكون لخدمة الإنسان وتنظيم حياته ورعاية احتياجاته الروحية أم جاء للتضييق على البشر بمُتطلباتٍ عويصة مُعقدة تُسرف في تقييد تحرُّكاتهم وتخنق طموحاتهم وتُكبل قدرتهم علىى التطور وإعمار الأرض؟ غالبًا ما تأتي ردود المُتشددين دينيًا على مثل تلك التساؤلات بأن مُتسائليها ضالين يستهدفون إثارة الفِتن، بينما لم يكُن هذا رد رب العالمين سُبحانه وتعالى على اسئلة الناس للرُسُل في كُل الأديان السماوية التي نعرفها، وهو ما يجعلنا نتساءل مُجددًا: هل يعبدون إلهًا غير الذي نعرفه؟ أم أنهم لا يفتحون تلك الكتب السماوية ولا يقرؤونها؟ أم يقرؤونها صوتيًا دون أن ينتبهوا للمكتوب بوضوح؟!
كل دينٍ جاء كان يستهدف الرأفة بالإنسان وبغيره من المخلوقات التي يتعامل معها، يُذكّر بمكارم الأخلاق والتراحم بين الناس ومسؤولياتهم تجاه أنفسهم وتجاه غيرهم، وما العلاقة بين الخالق والمؤمنين إلا علاقة محبة تحمي الإنسان ويتم توثيقها بالذكر والصلوات والعبادات، ولو كان الخالق يُريد إكراه خلقه على شيء لحرّكهم كالرّوبوتات المُسيَّرة التي لا شيء لها من أمر نفسها ولا تتنازعها المشاعر والرغبات، وكانت "حياة الإنسان" أولويَّة بلفظٍ صريحٍ في بعض الكتب السماوية منها "ولا تُلقوا بأيديكُم إلى التهلكة" في القرآن الكريم، كما أن تتبع تطور الأحكام الدينية بأوامرها ونواهيها على مر العصور يؤكد أن عدم جمود تلك الأحكام وتغيُّرها بتغيُّر المكان والزمان يعني أن الآمِر بها راعى دائمًا ظروف كُل عصرٍ ومُستجداته، مع هذا مازلنا نُصادف حتى يومنا هذا من "لا يتفكَّرون" ويفرضون على البشر في عصرنا الحاضِر مساراتٍ مُتطرفة يستحيل أن يعيش الإنسان الطبيعي معها بذريعة "الغيرة على الدين"!
الأركان الأساسية لكل دين محددة ومعروفة ويندر الخلاف عليها إن لم ينعدِم، مُعظم الخلاف والتشدد على مسائل تخص الشؤون الشخصية لحياة البشر وتتغير تفاصيلها بتغير ظروف الزمن ومُعطياته، فمناقشة التعاملات المرتبطة ببيع العبيد والإماء في أسواق النخاسة كانت أمرًا مقبولاً في أزمان انتشار تلك الظاهرة، لكنها لم تعُد أمرًا مقبولاً انسانيًا مع تطوُّر العصر وتجريم تلك الظاهرة المُنتهِكة لحق الإنسان، وقِس على ذلك مسائل أُخرى كثيرة يُعتبر التشبث العنيدُ بها مؤثرًا سلبًا على حياة الإنسان إلى درجة تودي به إلى التهلُكة.
إن التشدد الديني في مسائل تتعارض كُليًا مع مصالح معيشة البشر في العصر الحديث تكاد تكون نتائجه وجهًا مُفجعًا آخر للانحلال والانفلات، كلاهما يقودان الإنسان للغرق شيئًا فشيئًا في بئر الاضطرابات النفسية المُظلمة والشعور القاتم بعبثية الحياة ومن ثم الرغبات المُلحة في التخلص منها بالموت، وبعض تلك الاضطرابات تظهر في صور مُحاولات للتنكيد على الآخرين وإفساد كل ما يسرهم أو يجعل حياتهم أكثر راحة، عدا عن التورُّط بالعُزلة المُجتمعية عندما يتقمص المرء شخصيةً مُتسلِّطةً تريد فرضَ آرائها المُتشددة على المُحيطين بها فيتجنبون التعامُل معها أو الاقتراب منها.