زينب علي البحراني تكتب: احترامًا لخصوصيَّة الآخر..
قبل أعوامٍ طويلةٍ؛ سمعتُ إحدى السيدات العائدات إلى عالمنا العربي بعد هجرةٍ تتجاوز العشرين عامًا أن من المواقف التي مازالت تُسبب لها صدمةً حضاريةً بعد عودتها هي أن الناس في الشرق الأوسط يتصلون في أي وقتٍ لسببٍ أو دونما سبب، غير مُلتفتين لظروف الشخص الذي يتصلون به ولا عابئين بمشاغله والتزاماته، بينما اعتادت على أرض بلاد المهجر أن يُحدد الناس موعدًا للاتصال؛ وإن اتصلوا دون موعدٍ فإنهم يسألون بلطفٍ إن كان هذا الوقتُ مناسبًا للاتصال فيستكملون المُكالمة، أو غير مُناسب فيسألون عن الوقت الأكثر مُلاءمة ويُسارعون بإنهاء المُكالمة بعد سؤاله عن أفضل وقتٍ لمُعاودة الاتصال مُراعاةً لظروفه وخصوصية تفاصيل حياته!
بعد بضعة أعوام أخرى عاد رجلٌ مُهاجر من معارفنا إلى الشرق الأوسط، وشاءت بعض المشاغل المُشتركة أن أتلقى منهُ مُكالمة في وسط النهار، وإذا بصوته يأتي غاية في التهذيب مُتسائلاً: "تُرى هل وقت المُكالمة مُناسِب؟" وباعتباري انسانةٌ كمعظم الناس الذين كبروا وترعرعوا في بيئةٍ يتصل فيها من هَبَّ ودب على من هبَّ ودب سواء كان يعرفه أو لا يعرفه في أي وقت وكل وقت دون استئذان ولا "احم أو دستور"؛ فقد تجمدتُ لحظاتٍ أمام هذا السلوك الحضاري من شخصٍ يتصل عبر الهاتف المحمول؛ أي أن رقمه يظل مُتاحًا لمعاودة الاتصال به عند عدم الرد الفوري، ما يعني أنني ما كُنتُ لأرد لو لم يكُن الوقت مُناسبًا، لكن يبدو أن المُعتادين على السلوكيات الحضارية يُراعون مسألة أن رد الآخر على اتصالٍ دون موعدٍ مسبق قد يكون هو الآخر من باب التقدير وعدم التجاهُل الكامل، لذا يهتمون بالسؤال مُراعاةً لظروفه.
مع تطور وسائل الاتصال الحديثة السريعة تطوَّرت معها طُرُق الإزعاج وفوضى التعامُل مع الآخر في البيئات التي مازالت لا تقيم لخصوصيَّة الفرد وزنًا، فالحدود مُلغاة وأساليب اللياقة في التعامل مع الآخر غير مُعترف بها، ولا يسعك أن تُطالب باحترام خصوصيتك أو مُراعاة ظروفك ومشاغلك لأنك ستوصَم عندها بوصمة الغرور والتكبر والغطرسة، والطريفُ أن الأمر هذه الأيام وصل ببعض من لا يعرفونك معرفةً شخصيةً وثيقة نسف كُل الحدود واستغلال وسائك التواصل الاجتماعي لمحاولة الاتصال بك عبر المكالمات الصوتية دون استئذان، ومنهم من يتصل بمكالمة فيديو (صوتًا وصورة) دون استئذان ما يجعلك تتساءل: هل للأمر علاقة بنوعٍ من أنواع الجنون أم ثقةٌ مُفرطةٌ غير مفهومة؟
لكل انسان خصوصية حياته وحدوده الشخصية التي يستحق احترامها، وهذا الاحترام يُحافظ على استقرار المُجتمع ويُساعد البشر على التعايُش معًا بسلام، فإن فُقِد أو تم انتهاكه فُتِح باب للمشكلات والخلافات والصراعات التي تُغذيها مشاعر النقمة.