خالد منتصر يكتب: ملك في منفى العمر
د. خالد منتصر
" لا شئ يتكرر في الحياة سوى أخطائنا" مثل روسي، لكن الكاتب النمساوي ارنو جايجر يؤكد على صحته في روايته القصيرة "ملك في منفى العمر"، عندما يلوم نفسه على أخطائه مع أبيه وقت أن كان يتعامل مع بدايات مرض ألزهايمر على أنها أخطاء وحماقات تستوجب الغضب، كان يعنفه "لا تستسلم يا أبي"، الأب لم يرغب في تحدي النسيان، لم يدخل في حرب خنادق عنيدة ضد انهيار قدراته العقلية، أدرك المؤلف متأخراً أن هناك فرقاً بين أن يستسلم المرء لأنه فقد الرغبة في الحياة وأن يستسلم لأنه يعرف أنه مهزوم لا محالة، يقول ميلان كونديرا "الأمر الوحيد الذي يبقى لنا في مواجهة تلك الهزيمة التي لا مناص منها، التي تسمى الحياة، هو محاولة فهمها"، فشلت محاولات المواءمة التي بذلها الابن، استنفذت قواه، وأيقن أن التعامل مع مريض ألزهايمر يحتاج إلى معايير جديدة، وهي أن يسمح للواقع الذي اختلطت أوراقه عند المريض بأن يظل قائماً كما يراه هو، فيقول "لأن أبي لم يعد قادراً على عبور الجسر المؤدي إلى عالمي، قررت أن أعبر أنا الجسر إلي".
كان يراقب والده وهو ينزف ببطء، والحياة تفارقه قطرة بعد قطرة، خلص إلى نتيجة مهمة وهي أن مريض الزهايمر يفقد الإحساس بالاحتواء، حتى بيته وسريره صارا عاجزين عن منحه إحساس الاحتواء، لعل كلمات مارسيل بروست تعبر عن هذا الإحساس حين قال "الجنات الحقيقية هي تلك التي فقدناها"، اكتشفت عمته البداية حين سقط الكوب من يده وظل يحدق في الزجاج المحطم على الأرض عاجزاً عن التصرف، وعيناه تدمعان، عرف المؤلف الابن من خلال مرض أبيه أن الفارق بين الإنسان السليم والآخر المريض هو مدى قدرته على مداراة الحيرة الظاهرة، فتحتها تقبع الفوضى، وأن كل مريض ألزهايمر هو حالة مفردة، له قدرات ومشاعر ومسار مختلف لمرضه.
تعلم أيضاً أن القداسة المصطنعة التي نضفيها على الحقيقة هي أسوأ الأشياء، وإن محاولة إعطاء مريض ألزهايمر إجابات سليمة تبعاً للأعراف المعهودة دون مراعاة حالته، يعتبر بمثابة محاولة إجباره على فهم عالم ليس بعالمه.
إنها رواية غنية بالمشاعر والأحاسيس التي تجعلنا نتعاطف مع المريض بأخطر مرض محير للبشرية... ألزهايمر