رامز ارمانيوس يكتب: مازال يصرخ (٢)
تحدثنا في العدد السابق عن الاحتياج بشدة الي ثورة روحية ثقافية تهيأ العقل القبطي لإعادة تشكيله. وقد قمنا بالاستشهاد بالأنبا ابيفانيوس، وتذكرنا كلماته ووصيته بالدراسة والقراءة والترجمة. فقد كان هذا الرجل مثالا حيا لما يجب عليه ان يكون أي إنسان مسيحي.
اليوم انقل لك عزيزي القاريء بعضا من كتاباته القيمة جدا لعلها تكون شمعة تضيء لك طريقا جديدا نحو المعرفة الروحية المستنيرة.
يقول الأنبا ابيفانيوس: يضع القديس بولس الرسول هذه القاعدة: وَأَيْضاً إنْ كَانَ أحَدٌ يُجَاهِدُ لاَ يُكَلَّلُ إنْ لَمْ يُجَاهِدْ قَانُونِيّاً.أي إن لم يجاهد الإنسان حسب الأصول القانونية المتعارف عليها، لن ينال إكليل النصرة. فما المقصود بكلمات الإكليل والجهاد القانوني؟
وكلمة تاج أو إكليل تتكرر في كتاب العهد الجديد عدة مرات، وإذا رجعنا إلى النص اليوناني نجد هناك كلمتين تترجمان في العربية إلى كلمتي تاج وإكليل. وهناك اختلاف واضح في معنى الكلمتين. وكِلاَ الكلمتين كانتا تُستعملان في الحياة العامة في القرن الأول المسيحي أثناء التحدُّث باللغة اليونانية، لغة العهد الجديد. ومن الأفضل معرفة معنى كل كلمة حتى نحصل على مفهوم كامل ودقيق لآيات العهد الجديد التي تتكرر فيها هذه الكلمة.
الكلمة الأولى هي ”στέφανος – ستفانوس“ والتي تُرجمت في العهد الجديد بكلمة ”إكليل“، وهي تشير إلى الإكليل الذي يحصل عليه الفائز في المباريات الرياضية اليونانية، مثل العدَّاء الذي يُنهي السباق أولاً، ورامي القرص الذي يصل برميته إلى أبعد مسافة، والمصارع الذي يصرع منافسه ويطرحه أرضاً. وكان أيضاً يُمنح لخادم الدولة الذي يستحق التكريم، كما كان يلبسه العروسان في طقس سرِّ الزيجة الذي يُعقد عليهما. لذلك يُعتبر الإكليل (ستفانوس) رمزاً للنصر وللتكريم وللاحتفالات السعيدة. وكان هذا الإكليل يُصنع كضفيرة من أفرُع شجر السنديان والزيتون وبعض أفرع الزهور والنباتات الخضراء مثل الريحان والبنفسج والورود. وكانت الكلمة ”ستفانوس“ تُعطي معنى المكافأة أو المجازاة أكثر من كونها مجرد إكليل من الزهور.
أما الكلمة الأخرى التي تُترجم إلى كلمة ”تاج“ في العهد الجديد فهي ”διάδημα – دياديما“. وهذا الاسم اليوناني مشتق من فعل معناه: ”يربط معاً“، وهو يشير إلى شريط أزرق مُحلَّى بعلامات بيضاء كان يلبسه الملوك الفُرْس فوق العمامة أو لباس الرأس كزينة للرأس وكتعبير عن الملوكية .
فالكلمة الأولى ”ستفانوس“ هي إكليل النصر، بينما الثانية ”دياديما“ فهي تاج الملوكية. وسوف نورد بعض الآيات التي وردت بها هاتان الكلمتان للتمييز بينهما.
♦ ففي رسالة القديس بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس (9: 24-27) يذكر أثناء حديثه عن الخدمة المسيحية حلبة السباق اليونانية كرمز لنشاط المسيحي في خدمته لسيده المسيح. فيقول: «ألستم تعلمون أن الذين يركضون في الميدان جميعهم يركضون، ولكن واحداً منهم يأخذ الجعالة»؟ فهو يشرح هنا أن العدَّاء اليوناني يجري في السباق لكي ينال إكليلاً يفنى مصنوعاً من أفرع الشجر وبعض الزهور، التي سوف تذبل سريعاً. أما المسيحي ففي نهاية خدمته سوف ينال إكليلاً لا يفنى: «هكذا اركضوا لكي تنالوا… أما أولئك فلكي يأخذوا إكليلاً يفنى، وأما نحن فإكليلاً لا يفنى».
فعلى هذا المسيحي الذي يشتاق أن ينال هذا الإكليل الدائم، أن يُداوم على الجهاد الطويل الموضوع أمامه، وهذا الجهاد يحتاج إلى نشاط ويقظة وتمارين مستمرة. وحسب تعبير بولس الرسول في نهاية هذه الآيات: «بل أَقمع جسدي واستعبده (أي أُصيِّره عبداً لي)، حتى بعد ما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً». وكلمة ”مرفوضاً“ هنا في اللغة اليونانية مشتقة من فعل معناه ”يوضع تحت الاختبار، وبعد اجتيازه الاختبار يُرفض لأنه لم يكن صالحاً لهذا الاختبار“.
والقديس بولس أيضاً يستعير هذه الصورة من حلبات السباق اليونانية، فهو تعبير فني معناه ”رَفض المتسابق وعدم نواله الإكليل لخرقه قواعد السباق“. فإن لم يُمارس بولس ما يكرز به، فسوف يُرفض، ولن يكون له الحق في الإكليل الذي سيناله مَن يقوم بالخدمة المسيحية. فهو يخاف أن تؤخذ منه خدمته الرسولية وتُعطَى لآخر. عندما يقرأ هذه النص أحد مؤمني الكنيسة الأولى، فسوف يفهم ما يقصده بولس الرسول، وذلك بسبب معرفته لقواعد الألعاب اليونانية في أيامه، وسيدرك أن الرسول لا يتكلَّم هنا عن خلاصه الأبدي، لأنه قال في موضع آخر: «لأنني عالمٌ بمَن آمنت، وموقِن أنه قادر أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم» (2تي 1: 12)؛ بل الرسول هنا يضع عينه على المكافأة التي هي إكليل الرسولية.
وفي رسالته إلى أهل فيلبي (4: 1) يدعو القديس بولس القديسين بأنهم ”إكليله“: «إذاً يا إخوتي الأحبَّاء والمشتاق إليهم، يا سروري وإكليلي». فكما تُجدل أغصان شجر السنديان مع بعض الزهور لتصنع إكليلاً يوضع على الرأس، هكذا يقول بولس الرسول لمؤمني فيلبي: ”أنتم، أيها الفيليبيُّون، مجدولون معاً في إكليل انتصاري كرمز دائم لنصرتي على أعوان إبليس في فيلبي ودليل مكافأة خدمتي الرسولية عندكم“.
أما عن أهل تسالونيكي الذين ربحهم للمسيح، فهم يمثلون إكليل فرح يُزين به هامته في مجيء الرب يسوع: «لأَنْ مَنْ هُوَ رَجَاؤُنَا وَفَرَحُنَا وَإِكْلِيلُ افْتِخَارِنَا؟ أَمْ لَسْتُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً أَمَامَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ فِي مَجِيئِهِ؟. لأَنَّكُمْ أَنْتُمْ مَجْدُنَا وَفَرَحُنَا» (1تس 2: 20،19).
أما في رسالته لتلميذه تيموثاوس (2تي 4: 6-8)، فهو يتكلَّم عن إكليل البر، وأيضاً ما يزال في فكر القديس بولس الصورة الرياضية اليونانية، فهو يقول: «قد جاهدتُ الجهاد الحسن». لم يجاهد ”جهاداً حسناً“ كمجهود شخصي يُشكر عليه، بل ”الجهاد الحسن“، أي الجهاد الرسمي أو القانوني المطلوب منه. وهنا صورة الاستاد الرياضي حيث يتجمَّع المشاهدون ليروا اثنين من المصارعين وكل منهما يجاهد أو يُصارع قانونياً حسب قوانين اللعبة، وذلك لكي ينال إكليلاً من الزهور يُزين به هامته. والجهاد يُصوَّر أنه ”حسن“، ليس من وجهة نظر المتصارع، بل من وجهة نظر المشاهدين والحُكَّام. ثم ينتقل بولس الرسول إلى صورة أخرى ويقول: «أكملت السعي». وهو هنا يُصوِّر حلبة سباق وهو يجري في مضمار وقد أتى إلى نهايته. أما النهاية التي ينظر إليها فسوف تتحقق في روما عندما ينال إكليل الاستشهاد بعد فوزه في هذا السباق «وأخيراً وُضع لي إكليل البر».
سنكمل الجزء الثاني من هذه الدراسة الشيقة في العدد المقبل ان احبت نعمة الرب و عشنا.
المراجع
1-Grundmann, Walter, στέφανος,Theological Dictionary of the New Testament, Vol. VII, p. 629.
2- L. E. Toombs, Diadem, in The Interpreter’s Dictionary of the Bible, Vol. I, p. 839.
3https://epiphaniusmacar.com/%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%87%d8%a7%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%a7%d9%86%d9%88%d9%86%d9%8a/