صدمة ثقافية
اذكر عزيزي القارئ انه لا يوجد إنسان ما لم يمر بما نطلق عليه الصدمة الثقافية. تلك الصدمة التي أما أن تجعلنا نفيق أو نلاحظ شئ مختلف أو نركب الموجة ونمشي مع التيار. قد تقول تجعلني أفيق من ماذا؟ هل من الماضي الذي سبق لي أن عشته أم من العادات والتقاليد التي ترعرعت ونشاءت فيها أم من البيئة الجغرافية والتاريخية التي ولدت على أرضها؟
دعني في البداية قارئي العزيز أفسر لك مغزى كلماتي. فمثلا في البلاد التي بها الجبال الشاهقة بسهولة على أطفالها الصبيان والبنات تسلقها، وذلك تبعا للنشأة الجغرافية التي حتمت عليهم اكتساب هذه المهارة الصعبة على العكس مع من نشأ على ضفاف نهر أو بحر أو بأرض مسطحة.
وهذا جعلني في حالة " بين الواقع والخيال". اسرح بخيالي ثم اصدم بأرض الواقع، تتلاشى الأشكال أمام بصري ثم أفيق على صوت الحقيقة، تندمج الألوان معا ممتزجة ثم تضربني لأميز، شعور ولا شعور، ذاكرة في طي النسيان، بحث في أعماق الإنسان، ذلك العمق الذي يحتوي الحلم والخيال والواقع مختزنا ليعيد لي ذكريات الأفراح والأحزان، يقولون ابحث عن ذاتك عن نفسك، تلك الأحلام التي تحولت لواقع وذلك الواقع الذي تبخر مع الأحلام.
فما الذي تريده نفسي؟ هل تعيش الواقع بأحلامه آم تحول الخيال والأحلام إلى واقع؟ لماذا كلما سعيت لتحقيق حلم يلطمني الواقع؟ لماذا كلما سعيت للواقع اهرب ملاذا بالأحلام والخيال؟ أعود أقول لولا الخيال ما كان واقع، ولولا الواقع ما بحث الإنسان في الخيال. وهذا ما قد سعيت لاستوضحه. فمن خلال نظري من النافذة اصطدم بالستارة ثم زجاج النافذة ثم الشجرة ثم حوائط المنزل مقابلي ثم زجاج الجيران.
تتلاشى الأشكال حتى أفيق على ارض الواقع لخصوصية الأشياء والأشكال وسرية الأسرار. أعود أفيق بعد تلاشى الزمن في غيبوبة الخيال والأحلام. ففي نظري إنسان بدون أحلام انعدم عنده الزمان، فمن خلال الأحلام صعد بشر القمر وما بعده؛ وبدون الخيال ما كان اختراع، واكتشاف وتطور ورقى وحضارات وثقافات. تهتز الأشكال وتمتزج الألوان لتثير النفس والمشاعر وتستعيد الذكريات بحثا دائما عما هو أفضل وأمتع.
عزيزي القارئ دعنا معاً نرسم بعض اللوحات حتى لو في الخيال. "صورة محطمة"، كم من أشخاص رسمنا لهم صورة في خيالنا رائعة مثالية سرعان ما تحطمت عند أول تعامل واقعي لنا معهم؛ فتدمرت هذه الصنمية محدثة أصوات عالية تثير العديد من المشاعر المتناقضة من فرح وحزن – ضيق ونشوة – ثقة وخوانة – حيرة وثبات – حب وكره.... تكرار وتباعد وتقارب..
فالعالم قد صفق لمفاهيم العدل والخير والمساواة بينما صدم بأرض الواقع بالعنصرية والتعصب والإرهاب والدماء. بدلا من سنابل القمح التي ترعاها الشمس بدفئها إذ تقسو عليها فتقتلها وتخنقها بحرارتها. نضحك لنبكي وننوح، نفرح بالمولود ولكننا نحزن عندما يموت، نبني أسوار لنعود فنهدمها، نكون أفكار ثم سرعان ما ننقضها؛ حتى اللغات ننطقها ثم سرعان ما ننساها أو تهمل فتتلاش.
ارض مجهولة تكتشف، سكان أصليون يحلمون بالتقدم ويصدمون بالواقع، كانت الصين الهندية حلم أوروبا إلى أن وجدت أمريكا؛ المدينة الفاضلة في أحلام أفلاطون والبشرية تتهاوي من الخيال إلى واقع كله مرض وجوع وسيف أي موت بعد أن كان حلم الرخاء والثراء هو الأساس تلاشى بالفقر والجهل والمرض. كما إن "مكتبتي" ما هي إلا صورة فوتوغرافية لمجموعة كتب مرصوصة ولكنها قصاصات من الصور التي تم تجميعها لتمثل (ركنا) من مكتبتي الكبيرة.
فالكتاب هو الذي ينقلني من عالم الواقع إلى عالم الخيال، فهو الصديق الذي يمكن أن أحكي له أسراري ويسترني في جهلي، كتب قديمة وكتب جديدة جميعها تحكى أحداث وتعمل على مساعدتي ورفعتي عقليا ونفسيا واجتماعيا.
وما "داخل الأرض " إلا صورة أخرى تذكرني بفيلم رحلة داخل أعماق الأرض – فالكتاب كما الأرض والفلك والفضاء يدخلني لعالم الخيال ثم يعود ليجتذبني لارض الواقع- حيث يتم التقابل مع كائنات وأشكال وأشخاص ومواد وألوان مختلفة تنشأ من خلال البراكين والبترول والمعادن والأحجار والمياه.... وكل العناصر، وما الإنسان إلا كائنا يعيش على سطح الأرض مقابل الشمس ثم يدفن داخل الأرض لا فرق بين غنى وفقير، ملك وشحاذ كليهما في باطن الأرض يرقدان من تراب والي التراب يعودان. هذا يذكرني بقول الشاعر:
خفف الخطي إذا سرت فأديم الأرض من هذه الأجساد