خواطر مسافر إلى النور (٢٠٥)
آية: ”الله محبة“... هي الكفيل والضمان لآية: ”من يحب نفسه يهلكها“
أعجوبة المسيحية هي أستعلان” الله محبة “ للبشر. وأن حب الله هو حياة شركة، وشركة حياة. إن المحبة هي فيض ينسكب من الإنسان في الآخر.
- فالمحبة تُهرِق الذات حباً يحفظها في الآخر ”من يُحب نفسه يهلكها / يهرقها“ (يو١٢).
- المرأة التي سكبت "قارورة الطيب كثير الثمن" علي رأس المسيح حباً (يو١٢) صارت أيقونة لهذا الحب المسكوب.
- وأختبر ق. بولس سكيب الذات حباً: “وأما أنا فبكل سرور أُنفِق ، وأُنفَق لأجل أنفسكم ”( ٢كو١٥-١٢).
- وما هي نتيجة سكيب الحب؟ إن المحبة تهرق الذات حباً يحفظها في الآخر.
- إن سكيب الذات حباً هو انتقال كيان المُحِب ليسكن كيان المحبوب ”ويكون الإثنان جسداً واحداً. إذاً ليسا بعد اثنين بل جسد واحد“ (مر٨:١٠).
- ” الله محبة “ هو الإستعلان الأعظم لحقيقة الإعلان المسيحي من حيث كونه سكيب حب الله في الإنسان كما شرحنا، وإليكم بعض تجليات ”الله محبة“ :
أولاً: التجسد الإلهي، وسر الجسد والدم:
قد وصفه ق. أثناسيوس الرسولي أن ”الله أخذ الذي لنا ، وأعطانا الذي له ".
- فالتجسد هو إستعلان سكيب الحب الإلهي بنزول ابن الله الوحيد الجنس ليحِّل بذاته فينا. هذا إيماننا الذي نصليه بالقداس الإلهي: ”الكائن في حضن أبيه كل حين، أتي وسكن في الحشا البتولي“
- ثم يؤكد الله أن الإستعلان الملموس لطبيعته أنها سكيب حبه الإلهي إنما يستمر معنا وفينا إلى الأبد، وأنه ليس فقط حدث تمَّ في التاريخ بالتجسد في بيت لحم وأنتهي. فالرب في ليلة صليبه ”أخذ خبزاً علي يديه وقال خذوا كلوا منه كلكم هذا هو جسدي“. إن تأسيس الرب سر الأفخارستيا/الإشتراك في تناول جسد الرب ودمه، هو سكيب حب وانتقال ذات، وبإمتياز مستمر إلى الأبد.
هنا وعلى مائدة عشاء الرب يُطعِمنا المسيح ذاته لقمة وراء لقمة ورشفة يعقبها رشفة بيديه الكريمتين في أفواه أحبائه. ويقولها صراحةً "مَن يأكل جسدي ويشرب دمي، يكون فيَّ، وأنا أكون (فعل الكينونة والتواجد الذاتي) فيه"
- ما نذكره هذا لا يدع مجالاً لنقاش أو جدل حول أصالة عقيدة ”الثيؤسيس” أي ( تأليه الإنسان باتحاده - خلال سر التناول- في الطبيعة البشرية الجديدة التي أسسها المسيح في ناسوته المتحد بلاهوته - في سر التجسد الإلهي ).
وأن ”تأليه الإنسان في المسيح“ هو غاية المسيح العظمي والنهائية من جهة علاقته بالإنسان، انطلاقا من أن طبيعته " الله محبة“ سبحانه .
- فالمحبة صفة ذاتية لطبيعة الله. حيث الصفة الذاتية هي صفة لا يوجد أصل آخر لها إلا الكائن صاحبها = المحبة صفة ذاتية لله، لأنها لا توجد كأصل إلا في ذات الله وهو سبحانه الذي يسكبها هبةً وعطاءاً في الآخرين.
ولذلك فإن المحبة هي سكيبٌ يؤول إلي انتقال من ذات كيان الأصل إلي الفرع ”أنا الكرمة وأنتم الأغصان“ دون أن يذوب أحدهما في الآخر . فتبقي الكرمة هي الأصل بينما الفروع هي أغصان وليس أصل الكرمة، وبذلك فإن الله وطبيعته هي المحبة المطلقة والذاتية فيه، وهي عطاء لا يسمح بالاستيلاء عليه ولكن الشركة فيه في وحدانية الحب.
ثانياً: " تُحب الرب إلهك من كل قلبك و نفسك و قدرتك وفكرك“ ( لو١٠):
حسنا… وهل بعد كل هذا سيبقي فيك شيء لذاتك؟
قد سكبت ذاتك سكيبَ حبٍ في إلهك إلي أقصي المدي فلم يتبقى فيك شيء لأنك قد انتقلت لتدخل في شركة حب في إلهك، وربما هذا ما تغني به العهد القديم بالنبوة من وراء الزمن لِما نشرحه الآن: “ أدخلني الملك إلي حجاله“ (نش ٤:١).
ثالثاً: "وتحب قريبك كنفسك“ ( لو١٠)
هنا يختم الاستعلان المسيحي حقيقة " الله محبة" بانعكاسها - كشبكة جامعة - على الإنسان وقريبه الإنسان، حيث يسكب الأنسان ذاته حباً في الآخر قريبه، كتجلي وبرهان لنعمة الحب الإلهي الذي سكبه فيه الله حين سكن في كيانه بالمعمودية والميرون وأستمر في الإفخارستيا يطعمنا ويسقينا كيانه سكيب حبٍ في سر القربان المقدس.
وبهذا لا يبقي للإنسان شيء مما أخذه من كيان الرب الذي سكبه الروح فينا، إذ أنه قد انسكب وبالتالي أنتقل إلي القريب علي شبه محبة الإله " الله محبة "
هنا يتلاشى كل احتمال للمجد الذاتي للإنسان بأن يسرق مجد الله الذي سكبه ونقله " الله المحبة " في هذا الإنسان، أو يدعي أن طاقة الحب والبذل والخدمة هي من قدرات الإنسان نفسه، لأن ذات الإنسان قد أُهرِقَت حباً مسكوباً في القريب. لذلك فإن الوصية الثانية ”تحب قريبك“ هي الحارس للوصية الأولي ” تحب الرب إلهك“ من أن يسرقها الشيطان في المجد الذاتي للإنسان بقداسته .
رابعاً: ”كل من له يُعطَي ويُزداد“ (مت٢٥)
لذلك يطمئننا الرب أننا بسكيب وانتقال الحب هكذا يدوم ملؤنا من "الله المحبة" إذ يقول:” لأن كل مَن له (هذا الحب مثل إلهه في سكيب وانتقال) يُعطَي فيُزاد (تنمو ذاته بالحب)، ومَن ليس له (هذا الحب)، فالذي عنده يؤخذ منه (تذبل ذاته) “.
بل ويزيد الرب التأكيد علي أنه الضامن والكفيل لكل من يخشي نقصان بسبب سكيب وإهراق ذاته حباً للرب و القريب، فيقول الكتاب "نحن نعلم أننا انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الأخوة “ (١يوحنا ٣)
فكلما امتلأنا بالله المحبة يزداد سكيب حبنا، فلا ننقص لأن الرب يمتد بسكيب ذاته فينا إذ هو الحياة ذاتها. يا أخوة إن الحب الذي أصوله من الله المحبة هو ضمان عدم الموت، لأن “الله محبة” وهو” الحياة “.
والسبح لله.