خواطر مسافر إلى النور (٢١٩)
كيف نثق أن ما نؤمن به هو الحق ولا تحريف فيه (2)
أن إيماننا بالمسيح في لحمنا ودمنا
” لأنه إن كان الموتى لا يقومون، فلا يكون المسيح قد قام وإن لم يكن المسيح قد قام، فباطل إيمانكم. أنتم بعد في خطاياكم" (كورنثوس الأولي ١٥)
في هذه الآية المقدسة يقدم لنا الوحي الإلهي الدليل الحي على قيامة المسيح. إن فعل القيامة حدثٌ فريدٌ لم تعرفه البشرية مِن قَبل المسيح. فالمسيح هو ” الله ظهر في الجسد“ (تيموثاوس الأولي ١٦:٣) …
لبس جسدنا وصُلب به وقام بالجسد من بين الأموات ونحن فيه. فكل ما جازه الرب وتمَّمه في جسده الذاتي المولود من العذراء مريم جعله لنا ميراثاً و نعمة مجانية لكل من يؤمن به ”الله ظهر في الجسد“
والسؤال هنا، هل التحقق من قيامة المسيح من بين الأموات تاريخياً وإيمانياً ينتظر حدثاً تاريخياً نري فيه قيامة الناس من القبور لكي نتأكد أن المسيح حقاً قام فنؤمن به؟
إن عبارة ”أنتم بعد في خطاياكم“ توضح أنها القيامة من ”موت الخطية“ وليست قيامة الأجساد من القبور.
فقد أعلن الكتاب أن سقوط آدم وبنيه في العصيان كان نتيجته ”موت الخطية“ عندما تغرَّب الإنسان عن حياة الله فغادره روح الله. هذا يسميه الكتاب الموت الأول.
من أجل هذا تجسد المسيح. وأتحد لاهوته بجسده الذاتي الذي أخذه من العذراء مريم في لحظة الحبل الإلهي، فهرب ”موت الخطية“ عند دخول حياة اللاهوت .
هذه هي القيامة الأولي الروحية من موت الخطية، فالشيطان يقبض بسلطان الموت على موتي الخطية. أما المسيح فقد أشار إلي أحداث تلك اللحظة مبكرا وقبل الصليب قائلاً ”رئيس هذا العالم يأتي (علي الصليب) وليس له فيَّ شئ (موت الخطية)“. وبذلك فإن القيامة الأولي الروحية كانت مُنشِئة لقيامة المسيح بالجسد بعد صلبه وقبره ثلاثة أيام (القيامة الثانية).
عن هذه القيامة الأولي التي ننعم بها نحن الذين نؤمن بالمسيح، يقول سفر الرؤيا ٢٠” فعاشوا وملكوا مع المسيح .. هذه هي القيامة الأولى مبارك ومقدس من له نصيب في القيامة الأولى. هؤلاء ليس للموت الثاني سلطان عليهم“
سفر الرؤيا يوضح أن القيامة الأولي حتما ستؤل فينا إلي القيامة الثانية من القبور في اليوم الأخير مثلما المسيح بقيامته من بين الأموات باكورة لقيامتنا من القبور، فلا نذوق ”الموت الثاني“ موت الجحيم .
إن المرء يقف في دَهَشٍ وخشوع أمام هذه الآية العجيبة (كورنثوس الأولي ١٦:١٥) لأنها تستمد زخمها وعمقها وأصلها، ليس فقط من قيامة المسيح بالجسد، وأن الوحي الإلهي هو الذي سطَّرها في الكتاب المقدس، ولكن لأنها أيضاً تحمل منهج المسيح من جهة كلمة الله أنها ليست حروف بل اختبار و واقع حي ” الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة “.
فهذه الآية ساقها الوحي الإلهي علي لسان القديس بولس الذي كان هو نفسه التطبيق العملي الحي لها عندما تقابل معه المسيح علي الطريق ذاهباً ليقتل المسيحيين في دمشق. لقد جاز شاول الطرسوسي في كيانه الذاتي اختبار الموت والقيامة بتحوله إلي ق. بولس الكارز بالمسيح .
إن زلزال وإعجاز حدث القيامة الروحية التي أختبرها القديس بولس صار المقياس لإثبات قيامة المسيح تاريخياً !!
لقد تجسد المسيح ”ابن الله“ وصار أيضاً ”ابن الإنسان“، ليس لمجرد أن يضيف أحداثاً تاريخية تقتنع بها البشرية أو لا تقتنع .
هذا ليس أولوية المسيح والمسيحية، ولكن أن تتحول أحداث التجسد التي جازها الرب في جسده الذاتي إلى اختبار كياني للبشرية يغيِّر صميم كيان الإنسان عندما يؤمن بالمسيح.
فأحداث التجسد صارت من نصيب البشرية ”من أجلهم أقدس أنا ذاتي ليكونوا هم مقدسين في الحق“ كنعمة ننالها في سر نسميه ”سر المسيح“ و”سر الكنيسة“ وينقله إلينا الروح القدس: ”هذا ( الروح القدس) يأخذ مما لي (المسيح) ويعطيكم“
إن ”سر المسيح“ بما فيه من فعل القيامة الذي يختبره المؤمن ، هو الحق الإلهي الذي جاء من أجله المسيح له المجد لنختبره ونعيشه .
فلا فرق بين غياب حدث القيامة كيانياً في الإنسان وبين إنكار حقيقة تجسد المسيح وقيامته لأجل خلاص الإنسان. وما النفع أن نثبت حقيقة مجيء المسيح وقيامته تاريخياً بينما لم ننتفع به ونحيا قيامته؟ والعكس صحيح كما حدث مع بولس وفي كل تاريخ المسيحية أن إثباتها فيها أو بالأحرى فينا، في لحمنا ودمنا وليس صناعة إنسان.
من هنا كانت الجرأة في هذه الآية التي تضع حقيقة مجيء المسيح وقيامته تاريخياً على المحك بأن يكون إثبات ما حدث تاريخياً رهناً باختباره مستيكياً/ سرائرياً / كيانياً في حياة المؤمنين.
أقول أن هذا هو منهج الله مع الإنسان منذ أن خلقه، أن يؤمن به ويتبعه ببرهان الحق ذاته في داخل ذات الإنسان وليس بإثبات أو دليل خارج علاقة الشركة الخاصة الذاتية بين ذات الله وذات الإنسان دون وسيط ثالث .
فإن أصدق دليل علي الحق - الذي هو أساس الحقيقة - هو أن تختبره ذاتياً في كيانك ويصير لك شخصياً. مثلما هو أصدق دليل للمرأة أنها حُبلي أن تشعر بالجنين يتحرك في بطنها.
إن أهمية أثبات صحة المسيحية تاريخياً تتضاءل أمام أثباتها باطنياً في كيان تابعيها. لذلك لم تصارع المسيحية أحداً بسيف أو رمح أو غزو أو إرهاب لإثبات وجودها، لأن حقيقتها هي عمل روح الله في القلوب التي تطلبه أن يُعلِن ذاته فيها:
” ها أنا واقف علي الباب وأقرعه، إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه وأتعشي معه وهو معي“ ، ”لا يستطيع أحد أن يقول أن المسيح هو الرب إلا بالروح القدس“.
وأختم مقالي بتأكيد من المسيح لمنهج الأيمان المسيحي كما أستعلنه الرب في شفائه للمفلوج بأن قال له ”مغفورة لك خطاياك“. فأستغرب الجمع الواقف الذي ينتظر دليلاً مادياً وليس روحياً للشفاء. فشرح لهم الرب منهجه قائلاً ”أيما أيسر، أن يقال للمفلوج: مغفورة لك خطاياك، أم أن يقال له: قم وامش؟ “ (متي٩) .
إن كثيرين من الذين رأوا إقامة الرب للعازر وأبنة أرملة نايين من الموت، كانوا بعد ذلك بين الذين صرخوا ضد المسيح ”أصلبه أصلبه “
هنا يجدر القول أن الآية العظمي لوجود الله وعمل قدرته في حياة الإنسان هي بالدرجة الأولي عمل مستيكي سرائري للروح القدس في القلب واختبار حيّ مع الله في كيان الإنسان (= حياة الشركة) يفوق الفحص المادي كما أوضح الرب ”الريح تهب حيث تشاء، وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب. هكذا كل من وُلِدَ من الروح" (يوحنا ٥:٣) ... والسُبح لله